محمد فاضل العبيدلي
محمد فاضل العبيدلي
عمل محرراً في قسم الشؤون المحلية بصحيفة "أخبار الخليج" البحرينية، ثم محرراً في قسم الديسك ومحرراً للشؤون الخارجية مسؤولاً عن التغطيات الخارجية. وأصبح رئيساً لقسم الشؤون المحلية، ثم رئيساً لقسم الشؤون العربية والدولية ثم نائباً لمدير التحرير في صحيفة "الايام" البحرينية، ثم إنتقل للعمل مراسلاً لوكالة الصحافة الفرنسية (أ.ف.ب) كما عمل محرراً في لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية.

“أخويات المكارثية” الغربية تستيقظ لاجل اسرائيل

آراء

فيما تنشغل الدول العربية بمواجهة ايران في عدد من بؤر التوتر في المنطقة، تشن اسرائيل وحلفاؤها الغربيون حملة ضارية ضد حركة المقاطة الفلسطينية المعروفة باسم “بي دي اس” اي “مقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات”.

ففي 18 فبراير، كشفت صحيفة “ذي اندبندنت” البريطانية ان حكومة ديفيد كاميرون اصدرت في 15 فبراير مذكرة باسم “مذكرة حول سياسة المشتريات” موجهة لجميع الوزارات والمؤسسات الحكومية تجرم مقاطعة البضائع والسلع الاسرائيلية وتفرض عقوبات قاسية لمقاطعة هذه السلع [الاسرائيلية] على اسس اخلاقية حسب الصحيفة.وقالت الصحيفة ان حكومة كاميرون اصدرت هذه المذكرة دون الرجوع للبرلمان من اجل مناقشتها او التصويت عليها.

وبررت الحكومة البريطانية قرارها هذا بتجريم مقاطعة السلع والبضائع الاسرائيلية بانه مسألة “تتعلق بالأمن الوطني” مضيفة “ان هناك عواقب وطنية ودولية أوسع نطاقا لفرض مثل هذه المقاطعة على المستوى المحلي” و”يمكن أن تلحق الضرر بالتكامل والترابط المجتمعي داخل المملكة المتحدة” و”تعيق تجارة الصادرات البريطانية، وتضر العلاقات الخارجية على حساب الأمن الاقتصادي والدولي في بريطانيا” حسب ما نقلته “ذي اندبندنت”.

على الجانب الآخر من الاطلنطي، كانت السيدة هيلاري كلينتون الطامحة لرئاسة الولايات المتحدة قد تعهدت في رسالة وجهتها الى الملياردير اليهودي الامريكي حاييم صبان في 2 يوليو 2015 بالعمل معاً ضد حملة المقاطعة الفلسطينية وبأن تجعل هذا الهدف أولوية لها.

يبدو قطب صناعة الترفيه صبان الشخص المناسب لتوجيه رسالة وتعهد من هذا النوع من قبل السيدة كلينتون. فحاييم صبان المتبرع المنتظم لكلا الحزبين الديموقراطي والجمهوري في امريكا ولحزب العمل الاسرائيلي وصاحب اكبر تبرع فردي في تاريخ الانتخابات الاميركية الذي بلغ 10 ملايين دولار لحملة بيل كلينتون في انتخابات عام 2000، لديه قضية واحدة فقط حيث صرح في عام 2010 قائلا: “انا رجل قضية واحدة.. وقضيتي هي اسرائيل”.

لقد واجه قرار حكومة كاميرون انتقادات من حزب العمال المعارض الذي وصف القرار بانه “اعتداء على الديموقراطية” فيما وصفته الحملة المناهضة لتجارة الاسلحة بأنه “إعتداء على حق المواطنين ومجموعات الضغط في كل بريطانيا”. اما منظمة العفو وحملة التضامن مع فلسطين في بريطانيا فقد وصفتا القرار بأنه “اعتداء فادح على الحريات الديموقراطية”.

ما الذي يدفع حكومة كاميرون لاصدار “مذكرة/قرار” مثل هذا وصفه كثيرون بأنه “اعتداء فادح على الحريات الديموقراطية؟”.

من الواضح ان القرار يأتي لمواجهة تصاعد موجة مقاطعة اسرائيل في بريطانيا. ففي العام 2014 اصدر حكومة اقليم اسكتلنداتعميما للمجالس المحلية في اسكتلندا تضمن تحذيرا حول المشتريات اشارت فيه الى “انها لا تشجع اي تجارة او استثمار من [المستعمرات] الاسرائيلية غير الشرعية” حسب صحيفة “ذي اندبندنت”. كما اصدرت العديد من المحالس المحلية في بعض المدن البريطانية قرارات مشابهة تضمنت تحذيرات مشددة للموردين بعدم استيراد اية بضائع من المستعمرات الاسرائيلية في الاراضي الفلسطينية المحتلة. وقبل ذلك، كان الفيريائي البريطاني الشهير ستيفن هوكينغ قد اعلن في 2013 مقاطعتة لمؤتمر علمي عقد في اسرائيل تحت رعاية الرئيس الاسرائيلي السابق شمعون بيريز (المسؤول عن مذبحة قانا في جنوب لبنان عام 1996) احتجاجا على معاملة اسرائيل للفلسطينيين.

وعلى الرغم من ان حكومة كاميرون مطالبة بأن توضح لماذا وكيف يمكن ان تؤثر مقاطعة البضائع الواردة من المستعمرات الاسرائيلية غير الشرعية في فلسطين المحتلة على الأمن القومي لبريطانيا والأمن الدولي، فان المرء يتساءل حقا: لماذا لا يبدو هذا القرار مستغرباً؟

في أحد ابعاده المهمة، يأتي القرار في سياق موقف بريطاني متأصل في انحيازه لاسرائيل رغم كل بلاغة الدبلوماسية البريطانية في الحديث عن حل الدولتين او التسوية السلمية او غيرها من الالفاط التي يجيد الدبلوماسيون البريطانيون التلاعب بها. الأهم من هذا هو أنه يعني اعتراف حكومة كاميرون بالمستعمرات الاسرائيلية غير الشرعية واعترافا بأحد اهم تبعات الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة. لكن من منظور تاريخي، يذكرنا القرار بسياسة يبدو ان بريطانيا لم تتخل عنها واسهمت في تشكيل وصياغة تاريخ دول اخرى: انه التاريخ الاستعماري لبريطانيا.

على نحو ما، يعيد القرار تذكيرنا بما يمكن ان نسميه “حساسية سيكولوجية” بريطانية تجاه “المقاطعة”. ففي سياق التاريخ البريطاني نفسه، بدأت قصة هذه الحساسية السيكولوجية عندما احكم البريطانيون سيطرتهم على شبه القارة الهندية اواخر القرن التاسع عشر. البداية كانت بسيطة للغاية: تدمير صناعة القطن الهندية المحلية وإجبار الهنود على شراء منتجات القطن البريطانية. في ذلك الوقت، كان القطن هو نفط القرن التاسع عشر وتكمن عبقرية المهاتما غاندي في انه عندما ادرك ان طريق القانون لن يجلب للهند استقلالها، دشن نضاله السلمي وبأحد اهم اداوته وهي مقاطعة السلع والبضائع البريطانية خصوصا القطن والملح.

كيف واجه البريطانيون مقاطعة الهنود للبضائع البريطانية: بالقوة الغاشمة فقط. لقد كانت مقاطعة البضائع البريطانية ضربة في صميم اقتصاد الاحتلال البريطاني وعندما تصاعدت وتنامت وغدت نتائجها ملموسة، قرر البريطانيون التفاوض مع غاندي وحزب المؤتمر.

وفيما خص الفلسطينيين الآن، فان الرسالة هي نفسها التي تلقاها الهنود قبل عقود ونفس الرسالة التي تلقاها شعب جنوب افريقيا في نضاله الطويل ضد نظام الفصل العنصري حيث بقي نيلسون مانديلا على قائمة الارهابيين في بريطانيا والولايات المتحدة حتى انتخابه رئيساً لجنوب افريقيا منتصف تسعينات القرن الماضي.

في سياق النضال الفلسطيني الطويل من اجل الحرية والاستقلال، فان قرار حكومة كاميرون بتجريم مقاطعة بضائع المستعمرات الاسرائيلية غير الشرعية له معنى واحد فقط: “الفلسطينيون ممنوعون حتى من النضال السلمي لنيل حقوقهم المشروعة للتحرر من الاحتلال الاسرائيلي وحقهم في اقامة دولتهم المستقلة”.

وبالمقابل، فان تعهد هيلاري كلينتون للملياردير اليهودي حاييم صبان بالعمل ضد حملة المقاطعة الفسطينية، يأتي ضمن مساع محمومة لمواجهة اتساع حملة مقاطعة اسرائيل في الولايات المتحدة التي تنامت في السنوات القليلة الماضية. اما الأداة السحرية لهذه المساعي المحمومة فهو سلاح مجرب: “ميراث المكارثية”.

ففي اطار مواجهة اتساع حملة التضامن مع حركة المقاطعة الفلسطينية ضد اسرائيل في الجامعات الاميركية والجمعيات العلمية الاميركية، تم تقديم مسودات قوانين مناهضة لمقاطعة اسرائيل في عام 2014 في ولايات نيويورك وميرلاند تتضمن عقوبات للجامعات والمؤسسات التعليمية التي تنضم لحملة المقاطعة. ولقد تم سحب هذه مسودات القوانين هذه في الولايتين بعد احتجاجات من المعلمين واساتذة الجامعات الذين وصفوا هذه القوانين بانها “هجوم على الحرية الاكاديمية”.أما مسودة القانون الذي اطلق عليها “قانون حماية الحرية الاكاديمية” الذي تم تقديمه لمجلس النواب الامريكي في 2014، فهو ينص على وقف التمويل الحكومي على اي جامعة تؤيد المقاطعة الاكاديمية لاسرائيل.

أبعد من هذا، تم تقديم مسودات قوانين في عدد من الولايات الامريكية تتضمن عقوبات قاسية لأي عضو بهيئة التدريس يشارك في اي نشاط او يظهر تأييدا أو آراء تؤيد المقاطعة. كما ان بعض الجامعات الامريكية قامت بطرد طلاب من مجموعة “العدالة من أجل فلسطين” من السكن الجامعي وهددت أعضاء آخرين في الحركة باتخاذ اجراءات تأديبية بحقهم. ماذا يعني كل هذا؟ معاقبة الناس بسبب آرائهم.. هل هناك تعريف آخر للمكارثية؟

هكذا، تستيقظ “اخويات المكارثية” الغربية على ضفتي الاطلنطي لإنكار اي حق للفلسطينيين في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي حتى بالوسائل السلمية ولتبتلع كل من بريطانيا واميركا وفرنسا كل بلاغتها في الحديث عن حقوق الانسان طالما تعلق الأمر باسرائيل وباسرائيل فقط.

من الواضح ان حركة المقاطعة الفلسطينية تعيد تذكير ساكني 10 داونينغ ستريت بكابوس يرون فيه رجلا هنديا ضامر الجسم يلف نفسه برداء قطني منسوج من نول يدوي محلي استطاع ان يهزم الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس بمقاطعة بضائعها فقط.

مترجما عن غلف نيوز – 6 ابريل 2016