جمال خاشقجي
جمال خاشقجي
كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية

«أرامس» في مدينة لن تعود

آراء

أسافر كثيراً، كلما كنت في مطار، ولدي الوقت الكافي للتسكع في سوقه الحرة، أتوجه لقسم العطور فيه، أبحث عن عطر أرامس، أبخ منه عدة بخات، ثم أمضي خارجه دون أن أشتري زجاجة منه، استنشق عطره الذي يذكرني بأيام زمان.. زمان جداً.

أرامس من العطور الكلاسيكية التي بقيت حتى اليوم، قليل هي العطور التي تعيش أكثر من عقد من الزمان، ولكن أرامس واحد منها، عرفته منذ أيام الثانوية عندما اشتريت في العيد أول زجاجة منه، كانت بنحو 60 ريالاً، مبلغ كبير بأسعار ذلك الزمن، ربما لو وفرت قيمة عشرة منها لاشتريت قطعة أرض بأسعار ذلك الزمان.

لا بد أن لدى النساء أيضاً عطوراً كلاسيكية، تعطرت بها الأم والجدة والحفيدة اليوم، أخمن أن شانيل 5 منها.
أرامس ورائحته القوية تحملني إلى أيام زمان، أتذكرها الآن مبتسماً، في المدينة المنورة التي رحلت، بكل تفاصيلها الجميلة، بناسها وعاداتها، ليس بمبانيها فقط، حتى البلاد التي مرت بحرب وقصف، بقي بعض من عبق تاريخها، وحافظت على شخصيتها، المدينة لم تمر بحرب وإنما مرت بعاصفة سميناها «نهضة» أو «طفرة».

ما الذي أحن إليه في مدينتي؟ اللون البني الغامق في أعمدة الحرم المدني بعمارته المجيدية العثمانية التي لا تزال قائمة «الحمد لله»، كان يضفي على المكان هدوءاً وشعوراً بالبرودة، أحد ما قرر أن البني الغامق غير مناسب، واستبدله باللون البيج الحالي، لم يسأل أحداً، ولم يستشر خبراء عمارة.

أحنُّ إلى النجف العثماني الفاخر في الحرم أيضاً، كان متناسقاً مع المكان، أحياناً يداعبك برنة خفيفة من كرستالاته، أذكر أنه كان متشابهاً، ولكن صديقاً يقول إن كل نجفة كانت مميزة عن أختها، كان يضاء بالزيت، ثم أدخلت له الكهرباء، ثم اختفى وحلّ محله نجف نمساوي حديث قبل نحو 20 عاماً، ربما حان الوقت لتغييره فنحن لا نحب القديم!

أشتاق لحصوات الحرم، كان في وسط الحرم وتحديداً وسط عمارته السعودية الأولى، حصوتان مربعتان، ربما مساحة كل منهما 15 متراً في مثلها مفروشة برملة حمراء، كانت الحصوة مكاناً لاجتماع الطلبة، حيث كنا نجتمع فيها للتدارس، أحياناً نواعد أساتذتنا فيها، فلا يترددون في شرح ما غمض علينا من درس اليوم، توجد صور للحصوة الأولى وثمة أشجار ونخيل في ركنها القريب من الحجرة النبوية الشريفة، ولكن هذه لم أرها.

أغمض عينيَّ الآن وأدور بهما في ساحة باب السلام، لو كنت روائياً لصغت رواية تجري هناك، منها تتفرع حياة اجتماعية ثرية، سقيفة الرصاص، مدخل سوق القماشة، الدرج المؤدي إلى شارع العينية الفسيح، درج آخر يؤدي لزقاق الساحة، مكتبات باب السلام، فسيفساء من الحياة لم يسجلها أحد، شخوص رواية مختلفون في مشاربهم ولهجاتهم وتجارتهم وصنعتهم، ولكنهم معاً يشكلون أبناء المدينة «المداينة» كما يطلقون على أنفسهم.

لو عاد بي الزمن، لن أشتري عطر أرامس بستين ريالاً، وإنما كاميرا بأربعين ريالاً، وعشرة أفلام «أبيض وأسود»، ثم أمضي أصور كل ما أرى ومن أرى، وأسجل في دفتر صغير شرحاً لكل صورة، لو فعلت هذا لوثقت بالصورة والحرف لحياة في مدينة لن تعود.. أبداً.

المصدر: مجلة روتانا