أكثر من عتاب إلى هابرماس

آراء

خاص لـ (هات بوست)

ينتمي الفيلسوف إلى ذاته، وليس هناك سلطة تحمله على التفكير كما تشاء، أو على اتخاذ موقف معين. ولهذا الفيلسوف لا يتردد، وبانتمائه إلى ذاته، إلى عقله فإن سلطته هي عين ذاته. ولأن سلطته عين ذاته فهو حر بامتياز في نظرته إلى العالم، لكنه ليس حراً في صناعة الشروط الموضوعية للحياة. إن البشر، كما قال ماركس، يصنعون تاريخهم ولكنهم لا يصنعونه على هواهم. وإن كانوا يصنعون مواقفهم من تاريخهم الذي لم يصنعونه على هواهم.

الضجة التي أثارتها قضية رفض الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس لجائزة الشيخ زايد بعد قبولها، خضوعاً لسلطة مقال نُشر في جريدة ألمانية تأخذ عليه. قبول الجائزة لا يعني بأن عالم الاجتماع الشهير قد انتقل من الجهل إلى المعرفة كما برر ذلك، فتلك المزحة السمجة التي حررها كتابةَ والتي تقول بأنه ارتكب خطأً بقبوله الجائزة وها هو يصحح هذا الخطأ ليست سوى التبرير الأيديولوجي الذي لا يقنع عقل طفل صغير.

هذه الواقعة التي حصلت على هذا النحو وبطلها فيلسوف رفض جائزة بعد أن وافق عليها، إنما تنتمي إلى حقل خسارة الفيلسوف وربحه في مجتمعه الألماني بعد مقال ألماني في جريدة ألمانية، وليس إلى صحوة ضمير أو عقل، وليس إلى انتقال من الخطأ إلى الصواب. وهذا نمط من الانتهازية لا يليق بفيلسوف حر.، فالفيلسوف لديه مطلق الحرية في أن يقبل جائزة أو يرفضها، ولكن لا يجوز أن يخضع لسلطة من خارجه في القبول والرفض، لا يجوز أن يرفض بعد قبول ويتهم ذاته بالجهل كي يبرر خضوعه لسلطة من خارجه.

إن هذا الخضوع يعني بأن المسألة تقع في حقل الربح والخسارة، وليس في حقل الحقيقة وإرادة المعرفة، ليس في حقل حرية الفيلسوف. نحن لسنا هنا أمام تطور نظرة الفيلسوف وتغير رؤيته للعالم عبر مفاهيم جديدة، بل أمام حسابات ذات علاقة بصورة الحضور في العقل الأوروبي.

هب بأننا صدقنا التبرير الأيديولوجي الهابرماسي لرفض الجائزة بعد القبول، وصدقنا بأن هذا التبرير صادر عن شخص مؤمن به، فإن ذلك يطرح علينا السؤال الأهم: كيف ينظر فيلسوف ألماني أوروبي إلى عالم غير أوروبي وما قبل أوروبي؟

كيف يحكم فيلسوف أوروبي على دولة ناشئة انتقلت من مرحلة البداوة والصيد والاستعمار البريطاني،في وقت قصير جداً، إلى دولة اتحادية تضم أكثر منجزات الحداثة التي يدافع عنها هبرماس، وغدت مدنها ذات حضور عالمي، واستنت جوائز عالمية نالها العشرات من نخب العرب والعالم؟

دعني يا استاذ هابرماس أضع دولة الإمارات في حقل أطروحتك البسيطة، التي أشار إلى سذاجتها الفيلسوف الصاعد ماهر مسعود، متهكماً بأن الحداثة مشروع لم يكتمل. وأنت تقصد حداثة أوروبا في وقوفك ضد مفهوم ما بعد الحداثة، فإذا كان مشروع حداثة الغرب وأمريكا مشروع حداثة لم يكتمل من وجهة نظرك، فهل تريد لدولة لم يبلغ عمرها نصف قرن بعد أن تكتمل حداثتها؟

لقد أمدتنا البنيوية بمنهج يغني المنهج التاريخي، وقد أشار ماركس – أهم مرجع من مراجع مدرسة فرانكفورت التي تنتمي إليها – بأن أي تشكيلة اجتماعية جديدة لا يمكن أن تنتصر إلا إذا نمت في أحشاء التشكيلة القديمة. بلغة البنيوية، فإن أية بنية جديدة لا تنتصر إلا إذا نمت في أحشاء البنية القديمة.

البنية الجديدة التي انتصرت في الإمارات بنية حداثوية في شروطها التاريخية، فالعقد الوطني الذي تم بين الإمارات بعد رحيل بريطانيا هو انتقال هذه الإمارات إلى دولة اتحادية لا مركزية، مع عقد اجتماعي فرضته البنية، ونجحت هذه الدولة بفضل رؤية مؤسسيها وقيادتها الرشيدة والعقل التحديثي تبني نفسها مادياً وثقافياً على فكرة المواطنة. وكانت سرعة التحديث من بناء المدن ومؤسسات الدولة كبيرة جداً، أكبر من سرعة الحداثة على الطريقة الأوروبية، وتطابقت روح المواطنة في الإمارات مع البنية الثقافية للفرد الحر، في دولة عدد سكانها محدود نسبيًا، فالإمارات العربية المتحدة انتقلت من بنية قديمة إلى بنية جديدة، وليس العكس كما في الدول التسلطية النكوصية التي حطمت البنى الحداثوية الوليدة وأعادت المجتمعات إلى البنى التسلطية .

إن الحداثة بوصفها مشروعاً لم يكتمل مازال منتمياً إلى مركزية أوربية، لا تنظر إلى معيار التقدم التاريخي إلا بوصفه الحقيقة المطلقة، دون النظر إلى تاريخية السيرورة المجتمعية.

إذا كانت حداثة أوروبا التي بدأت بزوغها في عصر النهضة الإيطالية في نهاية القرن الثالث عشر، وشقت طريقها مع عصر الطباعة والآلة البخارية والثورة الصناعية ونشوء العلاقات الرأسمالية ثم استعمار الشعوب غير الأوروبية وخوض الحربين المدمرتين الأولى والثانية، والقضاء على النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، إلخ، مع ما رافق ذلك من تقدم فلسفي وعلمي وأدبي، إذا كانت أوروبا هذه مشروع حداثة لم يكتمل حتى الآن، فما هذا العقل الذي يقيس عالم لم ينته بعد من صراعات ما قبل الحداثة على عالمه؟ إن هذا العقل الميكانيكي لا يمت إلى المنطق الديالكتيكي ولا إلى التاريخانية ولا إلى البنيوية ولا إلى الروح النقدية عند رموز مدرسة فرانكفورت: هوركهايمر وأدرنو ماركوز.

الآن، أجد نفسي موافقاً صديقنا الفيلسوف خلدون النبواني المقيم في باريس، الذي حدثني عن لقائه غير المحمود بهابرماس، بقوله تعليقاً على الواقعة: هابرماس مفكر كبير له مواقف سياسية مشرفة ومواقف أخرى تدينه أخلاقياً.