“أم على قلوب أقفالها”

آراء

خاص لـ هات بوست: 

وصلني شريط مصورعن شخص يبدو أنه أكاديمي غربي يتحدث فيه عن القرآن، هو كمسيحي اطلع عليه وخجل من نفسه لأنه تأخر بمعرفة ما يحتويه، وكيف لكتاب يعترف بالأنبياء جميعهم ويبجلهم ألا يطلّع عليه كل أهل الملل الأخرى من غير المسلمين.

استوقفني كلامه، كم منا نحن “المسلمين” قرأ كتاب الله؟ كم منا قرأه وفكر بما يقرأ؟ كم منا قرأه وغيّر سلوكه وأحكامه بناء على ما جاء به هذا الكتاب؟ ربما قرأناه مئات المرات وحفظنا سور بكاملها، لكن هل انعكست تلك القراءة على حياتنا؟

نحن حفظنا أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يقبله الله من عباده، لكن لم نقرأ، أو قرأنا وتغاضينا، عن كون الإسلام هو الإيمان بالله واليوم الآخر واقتران هذا الإيمان بالعمل الصالح، وتغاضينا عن كون الاعتراف بالأنبياء الآخرين وما جاؤوا به هو من ضمن الإسلام، أو أننا اعترفنا بالأنبياء لكن كفرّنا أتباعهم وألقينا بهم في النار، وتعاملنا مع الناس على أننا الموكلون بالقبول أو عدمه، ونحن لم نضمن بعد قبولنا، معتبرين أن “الإسلام” بالولادة كاف لنكون مؤهلين للحكم على الآخرين.

على أن غيرنا لم يكن أفضل منا، فكتاب الله يخبرنا كيف اعتبر كل من اليهود والمسيحيين أنهم فقط على صواب، لكننا يفترض أننا أصحاب الرسالة الخاتم، وعلينا ألا نقع بالمطب ذاته {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (البقرة 113)، وكتابنا قد حمل تبجيل من الله تعالى لرسولنا محمد (ص) بالصلاة عليه لكنه في الآن ذاته ذكرنا أنه لا يفرق بين أحد من الأنبياء{قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (آل عمران 84).

ومن عظمة الإسلام هو هذا القبول للآخر، رسول يأتي ويعترف بكل من سبقوه لا بل ييجلهم ويبجل ما جاؤوا به ويدعو الناس للإيمان بهم هو لا بد مرسل من الله، فأنت تذهب لحلاق يستنكر عليك ما فعله من سبقه بشعرك، فما بالكم برسول، لولا أن عظمة رسالته تتطلب ذلك؟

فمن قرأ كتاب الله عثر على رسالة فيها الخطاب موجه لكل الناس، محرماتها هي ذاتها القيم العليا لكل أهل الأرض، منهياتها جميعها تنهي عنها قوانين الدول القديمة والحديثة، تشريعاتها تتحرك بين حدود دنيا وحدود عليا تراعي كل ظروف الزمان والمكان، فيها مجال واسع للعفو والصفح، ومن ثم سيعرف حينها معنى قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء 107).

لكن الخلل يكمن في أننا لا نقرأ كتابنا بما يجدر به من تفكر، ولا نعمل بما جاء به، ولا نقدم ديننا على الصورة التي جاء بها، حتى أمام أنفسنا، بل نقدمه كما ورثناه وقد علقت به شوائب ثقافية وسياسية وسلطوية جعلت منه ديناً مغايراً، سار على نهج ما وجده من الثقافات فلم يقبل الاختلاف، حتى بين أتباعه أنفسهم، ورفع شعارات فيها من العنف ما يرهب الآخر، وأضفى على رسوله صفات هو منزه عنها صلى الله عليه وسلم، وغلّب قصص مختلقة على الدين الحق، حتى انحرف به كلياً، فألغى القفزة النوعية التي حملها كدين عالمي خاتم يشمل تحت مظلته كل الملل وكل من آمن بالله وعمل صالحاً حتى قيام الساعة.

والأنكى من كل ذلك أنك تجد أن الخطاب الذي يسعى لتصحيح صورة الإسلام مرفوضاً ممن يدعون “الإسلام الصحيح” من جهة، وممن لا يؤمنون به أصلاً من جهة أخرى، فالفريقان يخافا أن تتقوض دعواتهم أمام خطاب الألفة والمحبة، لكن الحقيقة لا بد لها أن تظهر.

حري بنا نحن المسلمين المؤمنين برسالة محمد (ص) أن نقرأ كتابنا ونتدبره، ولا نترك قلوبنا مقفلة، ونقدم للعالم صورة حقيقية عما جاء به، قولاً وفعلاً، تليق بمكانته ككتاب من عند خالق هذا الكون بكل ما فيه من عظمة.