محمد الرميحي
محمد الرميحي
محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت

إعادة زيارة للبيت الخليجي

آراء

55 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي للعرب جميعاً نابع من دول مجلس التعاون، ويعيش 14 في المائة من مجموع العرب في هذا الإقليم. جزء من ذلك الناتج الاقتصادي يذهب إلى تمويل مشروعات تنموية وحيوية في بلاد عربية. النتيجة أن استقرار إقليم مجلس التعاون، حجر زاوية لاستقرار المنطقة بكاملها، وأن أي اضطراب فيه سوف يؤثر لا محالة على الأمن والسلام في المنطقة. 

إنها صورة سريعة مختصرة للثقل الذي يمثله هذا الإقليم، وهو جزء من صورة تأثيره في الاقتصاد العالمي، إلا أن القلق على أمن هذه المنطقة واستقرارها يتزايد. المخاطر قادمة من جهتين؛ الأولى وربما الأخطر، من قبل «خلاف الإخوة» على تحديد المخاطر وفهم أولوياتها وكيفية مواجهتها، فبعض يرى عن حق أن الاستمرار في تعضيد عناصر «الانقلاب على الوضع القائم»، هو تهديد حقيقي للأمن الوطني والإقليمي كافة، ولن تقتصر الخسائر إن سمح له بالتمدد على الآخرين، بل سوف تطال لا محالة في المدى المتوسط من قام بتعضيده سياسياً أو مالياً أو إعلامياً، لأنه نقيض طبيعي لمشروعه، كونه مشروعاً انقلابياً على كل الشرعيات وعابراً للأوطان بامتياز، يقع على الجميع شرره.

بجانب تهديدات «خلاف الإخوة» الذي يسبب العجز، هناك تهديدات متجاوزة للحدود، منها الاستراتيجي والمالي، ومنها العسكري. المالي والاقتصادي تظهر صورته جلية في تسارع بين دول العالم الصناعي بإيجاد بدائل للنفط، فإن علمنا أن 70 في المائة من المنتج النفطي يذهب استهلاكاً إلى قطاع المواصلات، فإن ما يلفت ذلك التقدم السريع لاستخدام «السيارة الكهربائية» التي تتطور التقنية فيها على طريقة الطفرة، وهناك تشريعات لازمة بأن عدداً كبيراً من مدن العالم سوف «يمنع» سير المركبات في شوارعها ذات الاحتراق الداخلي في غضون 10 إلى 20 سنة قادمة، من جهة أخرى فإن إنتاج الكهرباء من النفط أيضا يتراجع، حسب الإحصاءات العالمية، بجانب كل ذاك فإن المحروقات، أصبحت تستخرج من مواد ومناطق غير تقليدية! وتسير بعض الطائرات اليوم بمحروقات ذات مصادر غير نفطية! كما أن أسعار النفط تحولت اليوم من «أسعار سوق» إلى «أسعار سياسية»، ما يعني أن تلك الـ55 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العربي، القادمة من «عمليات استخراج النفط» لن تستمر خلال عقود قليلة من الزمن.

وكما قال ويل ديورانت في عمله الموسوعي «قصة الحضارة» إن «الإنسان عندما يفكر في غده، فقد خرج من جنة عدن، إلى وادي الهموم». وادي الهموم الخليجي يتركز في سؤال؛ ماذا سوف يترك جيل النفط لجيل النضوب؟! فالبديل الحقيقي عن نضوب محتمل للنفط، هو الاستفادة بأقصى سرعة ممكنة من خيرات اليوم ببناء رأس جسر إلى خيرات المستقبل. أي بكلام آخر؛ تنويع مصادر الدخل في هذا الإقليم، معتمدين على رأس مال إنساني وتوافق إقليمي. من المهم الإشارة إلى أن بعض دول الإقليم قد بدأت بشكل جدي تسير في ذلك الطريق. لعل المملكة العربية السعودية هي القائدة هنا. وهي ليست وحدها، فتعبيد ذلك الطريق الطويل يحتاج إلى تسريع وتوسيع؛ تسريع في الزمن، وتوسيع في الأفق. ولا بد من الذكر أن بعض دول الخليج ما زالت تراوح مكانها في هذا الشق حتى الآن!

يُجمع الخبراء على أن فرص نجاح أفضل وأشمل لتنويع الدخل في المستقبل بهذا الإقليم، هي حالة «لمّ الشمل» لتقليل المخاطر وتعظيم الفرص الجماعية، وأن الفرص تتضاءل في حال «فرقة الإخوة»، وكما نرى أن الفرقة لا تسبب ألماً اجتماعياً فقط، ولا نزيفاً للموارد فقط، بل تُفوّت فرصاً مستقبلية لأجيال قادمة، فالقوة التفاوضية في حال «لمّ الشمل» تكون أعظم، وكما أن السوق الكبيرة الواسعة سوف تكون أكثر استقطاباً للاستثمار المحلي والخارجي، وتفتح باب التدخل الخارجي على مصراعيه تمهيداً لاضطراب! فهناك إذن منافع للناس، ومصالح للشعوب وللأجيال القادمة وأيضاً استقرار للأنظمة، تفوق أي مصالح قصيرة الأجل للدولة المنفردة، وكلما صغر حجم الوطن مساحةً وسكاناً، كانت الحاجة له في «لمّ الشمل» أكبر وأعظم!

فمن المصلحة المشتركة لمّ شمل الأسرة الخليجية، وإعادة الحيوية لهذا المجلس، الذي سوف تعقد قمته القادمة رقم 39 غداً، 9 ديسمبر (كانون الأول)، في مدينة الدمام على ضفاف الخليج في المملكة العربية السعودية.

نشأ المجلس في وسط صخب هدير المدافع خلال الحرب التي نشبت بين إيران والعراق، وأُعلن قيامه في 25 مايو (أيار) 1981 في مدينة أبوظبي العاصمة الإماراتية، وكان من ضمن الأهداف تجنيب الإقليم شرر تلك الحرب التي اندلعت، ولم يكن أحد يعرف وقتها متى وعلى أي شكل سوف تنتهي، وأي موارد سوف تأكل؟! ومرت بعد ذلك مياه كثيرة تحت جسر تلك المؤسسة، تصدت لها بنجاح، خاصة في الأزمات، منها القضية الكبرى، وهي احتلال وتحرير الكويت من الاحتلال العراقي عام 1990.

فترة الإعلان الأولى استقبلت بحماس شعبي كبير، وأيقظت آمالاً واسعة، أن المستقبل أفضل والاستقرار أكثر، خاصة أنه مجلس يضم تشابهاً في الهياكل الاقتصادية والاجتماعية، وقد أبحر المجلس في ربط كثير من المشتركات بنجاح ملحوظ، ولكنه لم يحقق كل الطموحات.. على الأقل الشعبية.

اليوم تهديدات الأمن الخليجي أكبر مما كانت عام 1981. هي تهديدات حقيقية، على رأسها الحرب في جنوب الجزيرة (اليمن)، هي في الحقيقة حرب وجود لا حدود. بالأمس نقلت طائرة مؤجرة من الأمم المتحدة عدداً من جرحى الحوثي إلى مسقط للعلاج، ومن بينهم 4 لبنانيين من «حزب الله» المؤتمِر بأوامر طهران، واثنان من الحرس الثوري الإيراني. إنه دليل ما بعده دليل على تدخل إيران العلني والظاهر، كما المعروف من حقائق حول تدريبه وتمويله ومده بالسلاح، ما يدل على حجم التدخل الإيراني، الذي أصبح معروفاً وموثقاً دولياً في جنوب جزيرة العرب، لاستخدامه خنجر خاصرة لإشاعة الاضطراب في المنطقة ككل.

سألت أحدهم في ندوة عامة مؤخراً، بعد أن ترك كل أوجاع العرب المنكوبين في كل من سوريا والعراق ولبنان وليبيا وغيرها، وتحدث عن ضحايا اليمن (وهو أمر لا جدال في التعاطف معه، ولوم المتسبب الحقيقي عنه، وهو الانقلاب الحوثي على الشرعية)… سألته سؤالاً افتراضياً من أجل المناقشة، ماذا لو انسحب التحالف العربي لنصرة الشرعية من اليمن، وافترضنا أن كل اليمن وقع في قبضة الحوثي، وأصبح اليمن «محمية إيرانية»، ما السيناريو المتوقع بعد ذلك في رأيك؟ مع الأسف لم يرد مباشرة على ذلك السؤال! وكان أمام حشد من المختصين! الجواب عندي أن الحوثي سوف يبحر في المشروع الذي يعمل عليه، ومن أجله استؤجر من الولي الفقيه، ليحدث اضطراباً هائلاً ومدمراً لكل الخليج، ولن يستثني أحداً؛ لأنه ببساطة وموضوعية يستهدف «الصخرة» الواقفة أمام تمدد ذلك المشروع، وهي المملكة العربية السعودية، وهي هدف الولي الفقيه المعلن على رؤوس الأشهاد! تلك أحد التهديدات العظمى للإقليم، وهي ليست هينة، وغيرها يماثلها!

في هذه المرحلة من التغيرات السريعة، والرياح السياسية الساخنة، والتهديدات الخشنة والناعمة «القانونية» في مؤسسات التشريع الدولية، علينا جميعاً في هذا الإقليم أن نحاول جاهدين تغليب المصالح البعيدة، على المكابرة غير المحمودة، وأيضاً محاولة لمّ الشمل في إطار معالجة القضايا المركزية، وترك القضايا الجانبية المطلة على مصالح الدول، تعالج نفسها.

قاعدة ذهبية معروفة لنا ولغيرنا، تقول: «مع بعضنا نقف، مع فرقتنا نتعثر». قد تكون تلك الحكمة ملائمة للتفكير فيها اليوم. فلن يقوم أحد بحل مشكلتنا، وعلينا أن «نقلع شوكنا بأيدينا».

آخر الكلام:

السياسة لا تخضع للعواطف الشخصية، وإن فعلت، فهي تدمر الأهداف العامة، وتعرض الأوطان للمخاطر!

المصدر: الشرق الاوسط