نجيب الزامل
نجيب الزامل
كاتب سعودي

اسمي وليد.. من سورية

آراء

(*) هذه القصة لا يستلزم أن تكون واقعية، ولا الأشخاص.. إنما المعاناة واقعية.

أنا وليد، سوري، عمري في الشهر القادم سيقفل الخامسة عشرة. مظهري عادي، شعري بلون كستنائي محروق، وعينان خضراوان ضيقتان جعلت أولاد الحارة يطلقون علي الثعلب. لا أملك ذكاء الثعالب، ولكني أقرأ كثيرا. ربما قرأت عشرات الكتب لا يقرأها من هم في عمري.. ومعظم قراءاتي عن تاريخ بلدي.. سورية.

أنا من سورية. من الهلال الخصيب.. من أول مكان بدأت تظهر به مدنية البشر. في بلدي ولد تاريخ الحضارات، وتكون الإنسان المستقر الذي بنى أول مسكن، وزرع أول حقل، ووضع عودا أمام ساحته الصغيرة ليحسب الأيام والشهور للزرع وللحصاد. بلدي يربط قارات أوروبا وآسيا وإفريقيا، قلب الشرق الأوسط.. بوابة العالم.

مع كل ما يحدث منذ سنوات في بلدي، إلا أن حيِّنا لمدة طويلة لم يصل إليه أي خطر. كانت الحياة صعبة، ولكن كنا في جنة النعيم قياسا بمناطق ومدن وبلدات أخرى. تتعطل المدارس بشكل مستمر، وإن فتحت أبوابها وجدت أنها أفضل في إغلاقها. لذا، وللمفارقة، نمَت معارفي أكثر بقراءة كتب في غرفة والدي الذي رحل باكرا مريضا، وتُركت مئاتٌ من كتبه مكوّمةً عشوائيا في مخزن عتيق. هذا المخزن كان ملاذي، وفيه أجد أني أملك العالم.

قمت من النوم قبل أسبوعين، وذهلت لما وجدت الدم يخرج غزيرا من رأسي، وطار عقلي لما رأيت بيتنا مهدما بالكامل، وحولي جثث أخواتي البنات السبع، ووالدتي، وجدتي وجدي. بحثت بالبيت آليا وقد تجمد الإدارك بكياني.. ثم سمعت صوتا، أنينا ضعيفا، تبعت الصوت وأزلت بعض الأحجار وإذا أختي سُميّة ذات الأربع سنوات.. مليئة بالدم، وعيناها الواسعتان تجمدتا تماما، كأنهما اختفيا بعالم مظلم ومفزع بداخلها.

حملت أختي لأقرب مستوصف. لا مستوصف! تهدم بالكامل من براميل الجحيم التي تهبط كنيازك إبليسية من طائرات الموت. وجدت بعض المسعفات والمسعفين، وأخذوا سمية المليئة بالجروح، وقالوا إنها تحتاج إلى مضاد حيوي، وهم لا يملكون أي دواء الآن.

حملت أختي الصغيرة وقد ضاع لون شعرها الأصفر بالدم، ورغم شقار شعرها كانت سحنتها سمراء داكنة، ومن آثار النار والرماد والتراب لم أعد أرى إلا فجوتي عينيها. وفي الشارع الذي تهدمت بيوته على الجانبين وجدت جارنا عمار وهو يقود حافلة مدرسية. ووقف وناداني: “اركب الحافلة حالا سأجمع الجيران ونذهب لتركيا”. وسألته عن الحافلة فقال ببساطة محزنة: “سرقتها!”. ركبنا الحافلة، جثث على جثث، وأحمد الله أن الجو صقيع وإلا لاختنقنا حتى الموت من العرق والحر.

فجأة انفجرت قنبلة لا أدري من أين أتت وانقسمت الحافلة لقسمين. نظرت ليدي اليمنى وجدتها تفتت. خلعت قميصي ولففته عليها والألم لا يعقل ولا يطاق حتى أني تمنيت الموت كسعادة قصوى. مشيت مترنّحا متألّما غائبا عن الواقع.. بعد عدة كيلومترات صرخت: “نسيت أختي الصغيرة”، وصرت أزيد صراخا جنونيا، وأردت العودة ليمسكني عمار الذي بدا أنه لم تصبه جروح عيمقة: “لا ترجع لن يسرك منظر ما بقي منها!”.

ثم مشينا ومشينا ومشينا.. لا أحد يركبنا بعربته أو شاحنته بل يبعدوننا بجلافة، وكأننا غيلان الغابات. وابتسم حظي عندما وقفت سيارة بها رجل وزوجته واختاراني عن الجميع ليركباني.. على أن الحظ لم يطل الابتسام، لأنهما قبل الحدود التركية أخرجاني بعنف من السيارة لأني لا أوراق معي.. ولما حاولت أن أبعد الرجل عني لأنه شدّ على يدي المفتتة أخذ سكينا وصار يطعنني على تلك اليد البائسة.

لا أعلم ما حصل لي بعد ذلك إلا أني استيقظت في خيمة تعج بالسوريين الموجوعين، وكانت هي المستشفى الموقعي الذي أقامته هيئة الإغاثة بجنوب شرق تركيا.. وتقدمتْ لي ممرضة أجنبية وسألتني عن اسمي، ثم قالت لي إنها متطوعة من بلغاريا وتتكلم العربية فهي عاشت حياتها بدمشق لأن أباها عمل مدة طويلة بالسفارة.

أخبرتني كريستيانا أني مخدر الآن، وأن المخدر سيزول، وأن المخزونَ منه نفد. وطلبت بصوت متكسر أن أتحمّل الألم، لأن يدي اليمنى.. بُترتْ.

أنا وليد، من سورية، أغلقت الخامسة عشر.. بلا أسرة، بلا أخت، بلا يد. وهذا لن يتغير أبدا.. إن حييت.

المصدر: الإقتصادية
http://www.aleqt.com/2015/03/09/article_938250.html