الأبنية التراثية.. سمفونية الهوية

منوعات

تتمثل أبرز ميزات العمارة المحلّيّة التي ظهرت في المدن الساحليّة تحديداً، في استخدام المواد الطّبيعيّة في البناء والإنشاء، ويأتي على رأسها المدر، ومشتقّاته الأخرى كالجصّ والنّورة، وكانت قوالب الطين تُصنّع بأيدٍ خبيرة، وتوضع تحت الشمس لتجفّ أو توضع في أفران خاصّة تعجّل في جفافها وتماسكها، ويجري ذلك وفق نظام معيّن، له فترات محدّدة، وأماكن بعينها تجري فيها عملية صبّ القوالب، وتجميع الطين وخلطه، وإضافة مواد أخرى تساهم في تماسكه، وحرقه إضافة إلى أماكن تجميع القوالب الجاهزة. ويعمل الجصّ كمادّة لاحمة تحافظ على تماسك الجدران. كما استعمل الأهالي الأحجار البحريّة أو المرجان الذي يقلع من مناطق قريبة من السواحل، ويقطّع ويجفّف ويعد لصفّه في الجدران مترابطاً مع الجصّ.

وفي فترات متأخّرة، استعمل الأهالي الأسمنت والطابوق الأسمنتي بل ودمجوا بينهما، وركّبوا أحدهما على الآخر، وكانا لفترة متماسكيْن، ولكن مع مرور الوقت حدثت الفجوات بينهما وتساقطت الجدران لعدم التلاؤم بين المادّتين، إضافة إلى الإهمال الذي أصاب البيوت القديمة بعد أن هُجرت.

أمّا المدينة التّقليديّة، فهي خليط من تشكيلات ماديّة عمرانيّة، وأخرى سكانية بشرية، وعادةً ما يحدث فيها نوع من التفاعل بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والمكان. وهي تعبّر عن واقع تاريخيّ للمجتمع ضمن أُطر فكرية وتقنية وجغرافية واقتصادية واجتماعية معيّنة. كما تخضع المدينة لعوامل جغرافية واقتصادية واجتماعية.. وكانت المدن في الإمارات قديماً تتصف بسمات عمرانيّة معيّنة توارثتها عبر الأزمان، وتعوّد عليها الأهالي فكانت بالنّسبة لهم هي إطارهم الجامع، وهي محلّ إقامتهم المستمرّ. ومن هذه السمات: صغر مساحات المدن واكتظاظ المباني فيها وتراصّها، وهكذا كانت تخدم، بالتّالي، اعتبارات مناخيّة واجتماعيّة وعسكريّة، وهي أفضل مكان للسكنى في فصول الخريف والشتاء والربيع. وكان للبلدة المحلية مجموعة أقسام، وهي:

أولاً، حصن الحاكم

وهو أعلى وأكبر مبنى في البلدة. ويضم الأسرة الحاكمة والحاكم ومنه تدار شؤون الإمارة. وكان يوجد في كل مدينة من المدن الساحلية الكبرى في الإمارات حصن يُعرف باسمها: حصن أبوظبي، حصن الفهيدي في دبي، حصن الشارقة، حصن عجمان، حصن أم القيوين، حصن رأس الخيمة، حصن الفجيرة.. ولو أنّ الأخير يطلق عليه أحياناً قلعة.

ثانياً، السّكك أو السّكيك والأزقة

نتيجة للتقارب بين البيوت وتلاصقها وتقارب الفرجان كان لا بد أن يؤدي ذلك إلى تعرج الطرقات والأزقة، وضيقها، وساهم ذلك في توفير الأمن والحماية، إذ إن العدو الغريب لا يمكنه المرور في هذه الأزقة لجهله بها، كذلك فإن مَن يخبر التحركات في هذه المدن، كان، في الوقت عينه، يجد نفسه محتاراً لسلوك أي منها. وتتسم السكيك بأنها تعمل على توفير التّهوية، إذ يمر الهواء فيما بينها، ويثير نوعاً من التجديد في الهواء، وتعمل السكيك كذلك على كَسْر حدّة اندفاع الرياح والأتربة لأنها لا تجد ميداناً فسيحاً للتحرك.

ثالثاً، الأسواق

وهي في عمارتها الأولى غير معقدة، فهي عبارة عن دكاكين متراصّة في صف واحد يقابلها صفّ آخر، وتتقدم الصفين دكة للجلوس، ويغطي الممر سقف مِن الجريد. كما توجد بعض المجمعات المتألِّفة مِن غرف عديدة تُعرف بالعمارة، وغالباً ما تخزن فيها التمور والأخشاب والحبال وأدوات البحر والغوص والصيد.

رابعاً، المسجد الجامع

في تلك العقود من القرن العشرين، كان يتركز في كل بلدة مسجد جامع واحد، وهو أكبر المساجد الذي تصلى فيها صلاة الجمعة، وفيه يجتمع أهالي البلدة مرة في كل أسبوع، مع وجود مساجد أصغر في الفرجان تؤدى فيها الصلوات في الأيام الأخرى. وبصورة عامة فإن المساجد القديمة في الإمارات لم تكن بها منارات إلا ما ندر، واستحدثت مؤخراً، وهي تتكوّن من فناء خارجيّ، وفناء للصلاة.

خامساً، البيوت

تنقسم البيوت التقليدية في الإمارات إلى قسمين: شتوية وصيفية. وتنقسم حسب البيئة إلى ثلاثة أقسام: الحضرية أو المدنية والريفية والجبليّة والصحراوية. فأمّا الحضريّة فلها خصوصية واضحة في البناء والهندسة، ومن سماتها أنها تتوزع حول المنطقة المركزية في البلدة، مع ابتعادها بصورة عامة عن التكلف، وهي مبانٍ متلاصقة ومنخفضة. كما يلاحظ عليها انتشار الأسطح المستوية والجدران الصماء ذات الفتحات الصغيرة. مع وجود أفنية داخلية، وغرفها منفتحة على الداخل، وهي تعمل على تلبية حاجات السكان، ولها في الوقت نفسه مدلولات اجتماعية، من الحب العائلي والسيطرة الأبوية، ويغلب عليها الشكل المربع أو المستطيل. وعادةً ما يكون موقع المدخل (الباب) عند إحدى زوايا البيت، ولا بد أن يكون مدخلاً منكسراً. وعادةً ما كانت توجد «خريجة» في البيت: وهي بئر للماء المالح. كما تختلف أحجام وسعة البيوت وأشكالها بناء على الوضع المادي والمكانة الاجتماعية لأصحابها.

أقسام

تتمثل أقسام البيت الرئيسة في :

1- الليوان أمام الغرف، عبارة عن مظلة مسقفة تكون في العادة على طول الغرف من الأمام، وتعمل على كسر حدة الشمس، والتخفيف من الحرارة بحيث لا يكون الشخص الخارج من الغرفة مباشرة أمام الشمس، بل يمر أمام الليوان. كما يستخدم الليوان للجلوس. 2- غرف النوم: وتُعرف بـ«الدهاريز» أو المخازن. 3- تحتوي البيوت غرفة كبيرة متينة تُعرف بالمخزن، وهي أكبر غرف البيت. ويوجد في إحدى زوايا هذه الغرف وفي الثلث الأخير مِنها مسبح أو قطيعة أو زُويّة. وتوجد بها كوات وأعمدة خشبية صغيرة ملصقة بالجدار للتعليق. وعادة ما تكون نوافذ غرف النوم مطلة على داخل الفناء وليس السكيك.. وما يتمّ ابتداعه في بعض الأعمال الدرامية «المسماة تراثية»، غير صحيح، فلا توجد غرفة نوم نوافذها إلى الخارج. وتوجد في بعض الغرف الزخارف الجصّيّة غير المعقّدة. 5- المطبخ، في إحدى زوايا البيت، ولا يتعدّى مساحة مظلة مسقّفة يتوسطها التنور. 6- المجلس، في زاوية أخرى من زوايا البيت، ونوافذه دائماً مطلّة على الخارج. وهناك أيضاً، الادب أو الحمّام.

طُرز

تشتمل طرز العمارة التقليدية مجموعة مهمة من الأنماط، أبرزها :

أولاً، المدخل المنكسر

يعد مِن أساليب بناء البيوت القديمة وتمتاز البيوت بالدّهاليز المنكسرة. وهو نوع من أنواع حجب الرؤية عما في داخل البيت، وله دور الإعاقة عند حدوث هجوم على الحصن. ولهذا كان على الداخل من غير أهل البيت والمحارم، أن يدلف للمنزل من الباب الرئيس ويتّجه مباشرة للمجلس، دون أن يرى حوي البيت من الداخل.

ثانياً، الدخلات الجدارية

نوع فنّي معماريّ يستخدم لزخرفة الجدران مِن الدّاخل والخارج، وتكون «تلك الدخلات» عموديّة ومستطيلة، حيث تفتح فيها النّوافذ للمجالس والغرف، وعادةً ما تكون في بدن الجدار نفسه، أي لم تكن لها زوائد من خارج الجدار حتى لا تؤذي المارة بالسكيك، وهي أيضاً، ذات توزيع منتظم، ولها هدفان: معماري: تخفّف مِن ثقل البناء. وزخرفي: حيث توجد فتحات التهوية المستطيلة بالدّخلات الجداريّة.

ثالثاً، الجسور الخشبيّة

كانت تصنّع من جذوع النّخيل أو الجندل وتلفّ بالحبال، وطولها أو عرضها حسب طول وعرض ما يكون تحتها أو فوقها، وكانت توضع فوق فتحات الدّرايش وعتبات الأبواب، ووظيفتها ربط زوايا جدران الحجرات، أو للفصل بين كل مستوى من المداميك والذي يليه، وهي بمثابة الجسور الأسمنتية المعاصرة.

رابعاً، الوارش

الديكور الخاص بإطارات سطح المنازل، أي الديكور الخارجي لأعلى البيت المسمى بريكاست، والوارش هو الحاجز الواقع فوق سطوح البيوت، وعادةً ما يكون بارتفاع متر عن سطح البيت. وأحياناً يكون ملاذاً لأهل المنزل في وقت الحر، وقُبيل انتقالهم إلى المقيظ، واستعمل كثيراً بعد دخول الكهرباء في المدن التي لم تكن متواصلة، وكانت متقطّعة.

خامساً، الشرافات

وهي عبارة عن أشكال وهيئات تتويجية لواجهات المباني، والأسوار، والعمائر الدفاعية، وأحياناً فوق الأبواب، والوارش، وعادة ما توضع في الأعلى، ولها نماذج متعددة منها: المدبب، والمدرج، ورأس الحربة، والمسنن، والمخروطي، والهلال والنجمة، وذات البدن المربع أو المستطيل مع نهاية نصف دائرية مثقوبة الوسط. وذات البدن المفصص، مع قمة على هيئة خوذة مدبّبة. وذات القمّة نصف الدائريّة والربع دائرة عن يمين ويسار القمة نصف الدائرية.

العقود والأقواس

تضم الطرز المعماريّة والزّخرفيّة في العمارة التّقليديّة، الكثير من العناصر، بينها: العقود أو الأقواس، وهي عناصر معماريّة تنتج من الاستخدام الإنشائي لخصائص المواد الطبيعية. واستُخدِمت كنظام إنشائي ومن ثَمّ معماري في البلاد التي تفتقر إلى مواد البناء الأخرى كالأخشاب، ولها وظيفتان: الأولى إنشائيّة: موجودة في اللواوين، وفي أروقة المساجد، وقمم المآذن. والثانية زخرفيّة: موجودة في الدّخلات الجداريّة التي تشكّل فتحات البراجيل، ولها ثلاثة أنواع: العقود المدبّبة، العقد نصف الدائري، العقود المفصّصة أو المقصوصة.

المشربيات

وهي أحد أهم مكونات المعمار التقليدي، وتؤمن دخول أشعّة الشمس أو التحكّم فيها حسب المستطاع، كذلك كان من أغراضها الرئيسة استخدامها لتسهيل حركة الهواء، من وإلى داخل المسكن، إضافة إلى توفير الخصوصية للساكنين، وكانت توضع في فتحات التّهوية والإضاءة. كما كان لها بُعد جمالي معماري، إذ تمّ تشكيلها على هيئات هندسية وبنائية جميلة، وكانت تصنع من ألواح الجبس أو الحجر أو الرخام أو الجص.

المصدر: البيان