محمد الرميحي
محمد الرميحي
محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت

الإبهام والإظهار في علاقة بغداد بطهران

آراء

ماذا يعني أن تقوم جماهير البصرة بإحراق القنصلية الإيرانية من ضمن عدد من الأعمال التخريبية لمنشآت حكومية؟ قراءة الفعل من منظور سياسي، تعني أن الجمهور في البصرة، المدينة المحاذية لإيران، أراد أن يقول لطهران إن نظامكم السياسي لا يناسبنا. الفعل ذاك متوقع من أي مراقب يعرف عن قرب الشعور الوطني العراقي، الذي تكوّن على مدى طويل، إلا أن المعضلة السياسية العراقية ليست قريبة إلى الحل، فهناك عدد من السيناريوهات المحتملة لتطور المشهد السياسي العراقي، بعضها مع الأسف خطير، وقد تؤثر نتائج بعض تلك السيناريوهات السلبية على جوار العراق أيضاً.

اليوم اتضحت الاستراتيجية الإيرانية في الجوار، وهي تعتمد على تكوين قوة أو قوى مسلحة في الداخل الوطني (العراقي أو السوري أو اللبناني أو اليمني) موالية كليا أو جزئيا لإيران، ومُؤْتَمِرة بأوامرها ومشحونة بالطقوس، من أجل التأثير في مسيرة العمل الوطني في تلك الأوطان، وإلحاقها جزئياً أو كلياً برغباتها، تكبر تلك الجماعات أو تصغر، مسلحة كما في أماكن، وغير مسلحة في أماكن أخرى، ظاهرة في أماكن، وكامنة في أماكن أخرى، بفعل إغراء مادي، أو بفعل إغراء معنوي (مذهبي) أو بفعل إغراء مصلحي (نفوذ وسلطة).

في الحالة العراقية، وبسبب التطورات في العلاقات الدولية، خاصة الإيرانية – الأميركية، يظهر الصدام وشيكاً، بعد انقضاء التعايش بين القوتين. إيران تريد أن تكمل المسيرة على أن الساحة العراقية هي ساحتها غير المتنازع حولها، هي حديقتها الخلفية، وطريق مرورها إلى البحر الأبيض، والسياسة الأميركية الجديدة تنحو إلى إنهاء (التعايش) الأميركي – الإيراني في تلك الساحة، والمسرح هو تشكيل الكتلة الكبرى في البرلمان العراقي، ومن ثم تشكيل الحكومة. واضح من مسيرة الأحداث، وبسبب تفكك التعايش الثنائي «الأميركوإيراني»، أن إيران تفقد القدرة، في هذا الوقت، على تكوين تلك الكتلة الكبرى، وبالتالي تشكيل الحكومة، ولكنها تستطيع تعطيل الوصول إلى تلك الكتلة، ما يخلق فراغاً سياسياً قد يقود إلى الفوضى، حيث إن أي حكومة عراقية تُشكَّل، لا بد لها أن تنفذ المقاطعة الدولية لإيران (التي سوف تشتد بقسوة بعد شهرين من الآن) كما صرح ولو بشيء من الخجل، رئيس الوزراء السيد حيدر العبادي قبل أسابيع، باتجاه الانصياع للمقاطعة، ذلك ما لا تريده إيران.

ومن الأوفق النظر إلى المسرح السياسي العراقي من منظور هذا الصراع، الذي لا يبدو أن له حلاً سلمياً ممكناً في المدى المنظور. فالسيناريو الأول، وربما هو أكثر تشاؤماً، أن يكون حل ذلك المعضل هو استخدام سيناريو «الحريري»، حيث تقوم ميليشيات موالية لطهران بعمليات اغتيال لمعارضي نفوذ طهران، تفتح الباب لتخويف الآخرين، وإعادة النفوذ والهيمنة، ذلك يمكن أن يقود تدريجياً إلى «شيء من الحرب الأهلية» من خلال تفجير المشهد السياسي بأدوات الميليشيات الموالية لإيران والمضادة لها، ولعل أحداث البصرة كانت البروفة الأولى لتداعيات ذلك المشهد.

ما يقلل من الاحتمال السابق الموقف الشعبي العراقي، وهنا تلعب أداة «الجغرافيا السياسية» دوراً مهماً، فالعراقيون لقربهم من إيران، يعرفون ماذا تعني الهيمنة الإيرانية على مقدراتهم، على خلاف مثلا جماعات بعيدة في لبنان أو سوريا، فتلك لم تطلع على قبائح النظام كما يجب، لذلك يستمر بعضها في الموالاة، العراقيون يختلفون بسبب ذلك القرب والمعرفة. من هنا فإن السيناريو الثاني المتوقع أن تتدحرج الأمور في حال الانسداد، إلى فيدرالية فضفاضة، وبذور تلك الفيدرالية جاهزة تقريباً، فالأكراد في الشمال يطالبون بها ويتلمسون بداياتها وأيضاً فوائدها، التي من بينها استقرار اقتصادي وسياسي نسبي، والجنوبيون يتُوقون إليها، فالدولة المركزية في كل تجلياتها قد أهملتهم إلى حد الحرمان، كما تبين في أسباب انتفاضة البصرة، أما السُنة في الغرب، فيتذكرون المصائب التي حلت بهم، من انتشار «داعش»، التي سببها جزئياً انسحاب القوة العسكرية تحت إمرة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي من الموصل وجوارها، وبقاؤهم قبل ذلك مبعثرين أشهراً طويلة تحت الشمس، مطالبين بحقوقهم الوطنية دون مجيب!

ما يخفف من غلو السيناريو الإيراني السلبي في العراق وقوف السيد علي السيستاني في مكانين؛ الأول هو تأكيد المتحدثين باسمه بأن «النظام الإسلامي السياسي» هو نظام مدني، لا مكان لرجال الدين فيه، أو كما يصفونه «الحكم سياسة»، ذلك على النقيض الكامل من النظرية الإيرانية، والثاني أنه يدفع من أجل تقديم «وجوه جديدة» للقيادة السياسية في الحكم. ربما الفكرة الأولى تجد لها مناصرين عراقيين لأسباب لها علاقة بالشعور العام العراقي، أما الفكرة الثانية فقد توضع عقبات أمامها بسبب طموح السياسيين، فالسياسيون كرجال الدين «انتقائيون» أيضاً!

هناك بعد آخر في «الحالة الإيرانية» التي يبدو أنها تخسر عدداً من نقاط القوة السابقة، التي أهلتها للتمدد في الجوار، فبجانب الضغوط الأميركية التي تتحول تدريجياً إلى ضغوط دولية واسعة، تعاني من «المعضلة الأمنية»، كان السيد علي خامنئي يقول علنا: «إننا نحارب في سوريا حتى لا نضطر للحرب في طهران»، وهي تركيبة ذهنية تباع ببساطة على الجمهور الإيراني، إلا أن الوجه الآخر لذلك، هو المعادلة المضادة التي تقول «عندما تقرر الدولة تحصين أمنها بالتمدد في الخارج، تطلق آليات مضادة في الداخل». تاريخ الصراعات في العالم يؤكد ذلك. من أمثلة ذلك تدخل الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، إذ أطلق في النهاية ديناميّات في الداخل أدت تفاعلاتها إلى سقوط النظام برمته. والمثال الأوضح هو الخروج السوري المذل من لبنان بعد أن كون آلياته المضادة!

إيران تدخل في بداية هذه المرحلة، فبجانب ضعفها المشاهد في العراق، تستند إلى تركيا وروسيا الاتحادية في سوريا، وتواجه – وهذا هو الأهم – بتصاعد مشكلاتها الاقتصادية والسياسية والأمنية في الداخل، وبدأت في تصفية الصفوف الأمامية للسلطتين السياسية والعسكرية!

في هذا الجو المشحون، يجب ألا يُصرف النظر إلى أن إيران قد تقوم بأعمال غير متوقعة وغير عقلانية، ربما منها تشجيع حرب أهلية في العراق، على خطورتها، وربما الركون إلى تفعيل جماعات شبه نشيطة أو نائمة في مناطق في الجوار، لتشعر أنها بذلك توجع «الأعداء» أو من تتخيلهم أعداء! فاحتمال أن تركن إيران إلى أعمال ونشاطات «غير متخيلة» احتمال قائم!

آخر الكلام:

هناك تطور قادم يعقد إلى حد كبير المأزق الإيراني، فإحدى أذرع إيران في الجوار (حزب الله) يتوقع الحكم الذي سوف يصدر من المحكمة الدولية في اغتيال رفيق الحريري بإدانته بالإرهاب، عندها سوف يسجل العالم وبشكل دولي وموثق، مَنْ وراء الإرهاب المنظم في المنطقة!

المصدر: الشرق الأوسط