محمد شحرور
محمد شحرور
مفكر إسلامي

الإسلام والإنسانية

آراء

خاص لـ هات بوست: 

بعث الله تعالى رسوله محمد (ص) حاملاً رسالة للعالمين، ختم بها الرسالات وأعلن بصريح العبارة اكتمال الإسلام ووصول الإنسانية لسن الرشد، بحيث بات بإمكانها الاعتماد على ذاتها في العيش دونما رسالات جديدة، وفق هدى من الله رسمت خطوطه الوصايا التي تراكمت عبر التاريخ، تدريجياً منذ ابتداء الأنسنة، وانسجاماًمع اتساع المدارك والمعارف.

ولم توجه هذه الرسالة للعرب دون غيرهم، ولا لسكان الشرق الأوسط فقط، وإنما للناس جميعاً {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (الأعراف 158)، وباعتبارها الخاتم فهي بالضرورة تحمل أحكاماً ستتناسب مع مختلف الأزمان وحتى قيام الساعة، لا تتغير بتغير الظروف، ويمكن للمتمعن بآيات التنزيل الحكيم ملاحظة أن الإسلام واسع النطاق، يضم تحت جناحيه كل من آمن بالله وعمل صالحاً {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت 33)، والعمل الصالح مفتوح للإبداع قدر ما نشاء.

ولما كان الإسلام دين شامل، أكد الله تعالى أنه دين الفطرة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم 30) فالله سبحانه فطر الناس على سجية معينة، يشذ عنها البعض، ويسير عليها الكثيرون، حتى لو جهلوا أنهم سائرون على هدى الإسلام، فالدين القيم الذي لن يقبل الله غيره من عباده هو ما يتماشى مع فطرتهم، ونظرة سريعة لما حولنا من أفراد وأمم وشعوب تؤكد لنا أن الإنسانية تسير في الطريق الصحيح، فتميل الأنفس للإحسان للوالدين، وللعطف على المستضعفين، ولتجريم قتل النفس، وتنبذ انتشار الفواحش، وتكره الغش ونقض العهد وشهادة الزور، وتتحرك معظم القوانين في العالم ضمن حدود الله، وتنوس العقوبات ما بين عفو وغرامات مالية وسجن، وما بين إقرار الإعدام كعقوبة للقتل أو إلغاء هذه العقوبة.

والوصايا التي ارتقت في الرسالة المحمدية ليصبح الاهتداء إليها صراطاً مستقيماً، ومخالفتها محرمات، تتعلق بالتعامل مع الآخرين، إذا ما استثنينا الوصية الأولى {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام 151 – 152 – 153)، حيث يعتبر “عدم الشرك بالله” وصية شخصية تتعلق بمعتقدات الإنسان ومدى اعترافه بالاختلاف والتعددية والتغير لكل ما في الكون عدا الله تعالى، إذ لا واحد إلا الله، ولا باق سواه، ومع ذلك ورغم كون معتقداتنا خاصة بنا، إلا أنها تنعكس على علاقتنا بالآخرين ابتداءً من أبنائنا، والمحيطين بنا وانتهاءً بمجتمعاتنا ونظرتنا لشعوب العالم.

وكون الإسلام رسالة عالمية ليست نقيصة، وإنما سمة سامية، ويبدو منطقياً أن يكون دين الله جامع لكل الناس، يصهرهم جميعاً تحت مظلة الإنسانية، ومن أراد منهم أن يتقرب إلى الله أكثر فالطرق إليه متعددة، ولكل أمة سلوكها، وسلوك أمة محمد هو في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، وإذا أردت التميز فعليك بالإحسان إلى الآخرين، حيث التقوى هي معيار التكريم عند الله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات 13).

وإذ يسعى “المسلمون” في بلاد العالم لتمييز أنفسهم عن غيرهم، ربما في رد فعل تلقائي تجاه العنصرية التي يلقونها أحياناً، يبدو حري بهم أن يوجهوا سعيهم إلى الاندماج مع الناس كإخوة في الإنسانية قبل أي هوية أخرى، ونشر رسالتهم بصفتها رسالة عالمية، وتلك خصوصيتها، ولا تختزل من خلال غطاء رأس المرأة، ولا لحية الرجل، وإنما بإنسانية تعاليمها ورحابة مبادئها، وكتابنا الذي نهتدي به حافل بآيات الأخلاق والمثل العليا.

ورب معترض هنا يحتج بآيات القتال والعنف، فما عليه إلا تدبر هذه الآيات بدقة ليتبين أنها تختص بحقبة معينة هي عصر النبوة، وننظر إليها كتاريخ يؤخذ منه العبر، أما القتال كخيار يمكن اللجوء إليه في العلاقات بين الدول، فله شروطه، أولها الدفاع عن النفس حين تستنفذ فرص السلم.

خلاصة القول أن الإسلام دين الإنسانية، وعلينا تكريس هذه الصورة وتفعيلها في أنفسنا، ووفق هذا الفهم يمكننا استيعاب قوله تعالى {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران 85).