التشريع بين المحلي والكوني

آراء

في مقاله «الحيوية الفقهية والمستجدات الدنيوية» («الشرق الأوسط» 14 يونيو/ حزيران) تعرض الأستاذ فهد الشقيران لمسألة طالما بقيت في هامش اهتمام المتحدثين في الفكر والفقه الإسلامي وتجديده، أعني بها التمييز بين الأحكام ذات الطبيعة الكونية، ونظيرتها التي تعالج قضايا محلية أو مؤقتة فحسب. وقد أجاد الكاتب في التنبيه لهذه المسألة المهمة.

من حيث المبدأ يتفق علماء الإسلام على أن أحكام الشريعة نوعان؛ ما يتعلق بحادثة أو ظرف خاص، فلا يسري على غيرها، وما هو حكم عام في كل القضايا التي موضوعها واحد. ويتعلق بالموضوع أيضاً مسألة الثوابت والمتغيرات. وفحواها أن بعض الأحكام ثابتة في كل زمان ومكان، وبعضها متحول، لأن الظرف الزماني والمكاني جزء أساسي في تشكيل موضوع الحكم. وهذا أيضاً من موارد الاتفاق قديماً وحديثاً.

تقترح هذه المقالة معنيين للمتغيرات، يقوم أولها على التمييز بين المحلي والكوني، وهو ما أشار إليه الأستاذ الشقيران. ويقوم الثاني على التمييز بين المراحل المختلفة للحكم، من حيث ارتباطه بتطور المجتمع. وهو يرتبط مع الأول من بعض الوجوه. لكني سأتركه لوقت آخر.

لا شك أن استيعاب المجتمع المتلقي للرسالة السماوية، وقابليته لإعادة إنتاجها على شكل دعوة لغير المؤمنين، هو غرض مقصود بذاته. لو لم يستوعب عرب الجزيرة معنى الرسالة ومقاصدها، لما تحولت من تيار صغير إلى كيان قوي ومن ثم أمة كبيرة، خلال فترة قصيرة نسبياً. نعلم أن سرعة الاستيعاب والتفاعل، كان ثمرة لنزول الخطاب بلغة مألوفة، ومخاطبته للعقول والعواطف بصورة متوائمة. وأحيل من أراد التعمق في هذه المسألة إلى كتاب المستعرب الياباني توشيهيكو إيزوتسو «الله والإنسان في القرآن» الذي ركز على الجوانب الدلالية للغة القرآن، وكيفية ربطه بين السائد والمحلي، وبين الرسالة الداخلية للنص. هذه اللغة – الشفافة حسب وصف إيزوتسو – مكنت العربي القديم من النفاذ إلى مقاصد الخطاب، عبر مفاهيم سائدة ومألوفة.

الأحكام التي ذكرت في القرآن والسنة، التي تنظم العلاقة بين الناس وسلوكياتهم، ليست استثناءً من هذه القاعدة. وأشير هنا إلى رأي الفقيه الهندي شاه ولي الدين الدهلوي (1703 – 1762م) في كتابه «حجة الله البالغة»، وفحواه أن العديد من الأحكام الشرعية، بما فيها بعض العقوبات، ليست من إنشاء الشريعة، فقد كانت معروفة سابقاً، فتبناها الإسلام بعدما أدخل عليها تعديلات.

بعبارة أخرى فقد عمد الشارع إلى ما تعرفه المجتمعات المحلية، وما تعارفت عليه – يومئذ – كنظام معقول وعادل، فتبناه بذاته أو بعد تعديله. ولو جاء بمنظومة أحكام جديدة تماماً، لربما وجدها الناس غريبة أو متعارضة مع طبائعهم ونمط حياتهم، ولربما أنكرتها أنفسهم.

يميز هذا التحليل بين الحامل (اللغة القومية والعرف المحلي) والمحمول (الدين – الشريعة). يمكن للدين وشريعته أن يخاطبا أقواماً ومجتمعات مختلفة في ثقافتها وتجربتها التاريخية وهمومها. يمكن أن نضرب مثالاً بمجتمع أوروبا أو اليابان أو أفريقيا. لكنه حينئذ سيحتاج لطريقة خطاب مختلفة، في اللغة والمفاهيم الحاملة للفكرة وكذلك منظومات الأحكام.

زبدة القول: إن الدين جزءان؛ أولهما الحقائق الكبرى وهي جوهره، والوسيط بين كل إنسان وبين الخالق سبحانه، وثانيهما القوانين الناظمة للحياة الاجتماعية، وما فيها من تعاملات وعلائق. الأول كوني وهو الثابت، أما الثاني فمتغير بحسب طبائع المجتمعات وهمومها وتاريخها الثقافي.

المصدر: الشرق الأوسط