التطرف وإرجاع عقرب الساعة إلى الوراء

آراء

لا يولد الإنسان بهويته وإنما بقابليته لتبني هوية أكثر من الأخرى، لكنه يبنى لاحقاً- وبمساعدة مجتمعه- سجناً لعقله يرسخ فيه من خلال الإرث الديني والفلكلور والموروث الشعبي من شعر وقصص وأساطير وقيم وسلوك اجتماعي، مبادئ عامة لحياته تصبغ بالصبغة المحلية، ويتحول الدين إلى وكالة خاصة لجزء معين من العالم وشعوب بعينها، وكأنه نزل لتلك الحضارة ولغتها وعاداتها فقط، فتكون الفجوة حيث تصبح اللغة وفهمها والتأويلات التي تحتويها أهم ركيزة في الدين نفسه والمشعل الذي تستنير به الشعوب في كهوف ظلام تعتيم لاهوتي تأوي إليها النفوس مفتونة، وتطمس إنسانية الإنسان، وتستبدل بالنزعة الفردية في التفرد في فهم الدين. ولذلك عندما تقابل أي شخص عربي مسلم تشعر بأنك لم تقابل شخصاً مختلفاً، وكأن الفكر والمنهجية في فهم الأمور وتفسيرها وقبولها نسخ من عقل لعقل.

فهل الخلل الذي نعانيه في عالمنا الإسلامي، هو خلل في البنية التحتية للقيم المتوارثة وليس كيف تدار السياسة، أو يدار الدين في المجتمع؟ وماذا عن المسميات والتصنيفات التي تمنح كل شخص وصمةً خاصة إذا فكر في الخروج عن الخط الذي رسمه له الكهنوت ليحدد له طريقة تناوله وممارسته للدين، وحتى لو كان معتدلاً ويحترم القوانين والنظم وينبذ ويرفض العنف والتطرف والغلو؟

فالدين كشعور داخلي يولد به الإنسان، وله جذور عميقة في النفس الإنسانية والمورثات الجينية واحتياج يلازم الإنسان طوال عمره، وحتى وإن كان ملحداً، فلا بد من أن يؤمن بأمر يراه الصواب ويجد فيه خلاصاً لروحه التواقة إلى معرفة سر الوجود، وتلك الحاجة الملحة للإيمان هي المحرك الرئيس لجوع الفرد المعرفي لظواهر ما وراء الطبيعة.

فالدين كظاهرة اجتماعية يُعد أقوى مكونات الحفاظ على المجموعة البشرية، التي تربطها قواسم مشتركة، ويرتبط بوضع قيمة للذات وقبولها والوعي بذلك هو الحرمان النسبي الذي كانت نتيجته رواج التطرف الديني كسلعة بعد أن كان التدين رابطة روحية خاصة ولا يزال للأغلبية من البشر مع بروز موجة التدين الشعبي والتعامل مع الدين كوكالة خاصة، والذي كانت له آثار مدمرة على التسامح والاندماج الاجتماعي والاستقرار السياسي والأمن الدولي.

فهناك علاقة متشابكة بين السخط المتزايد وعدم الرضا الداخلي وأسلوب حياة كل مجتمع وحلم الحركات الإسلاموية المسيسة والمتطرفة لإيجاد «المجد الإسلامي» الضائع ورفض التمدن والحداثة للعودة لنموذج الدين الذي تم تطبيقه في بداية الإسلام وما يمثله من نقاء وأصالة غير قابلة للتعديل والنقاش، كما نقل إلينا لاحقاً من أشخاص يعتبرونهم حماة الدين الحقيقيين والأقرب للمنبع الأساسي للدين، وبالتالي يرفض نقد أعمالهم التي تعتبر قيمة شبه مطلقة لما يجب أن يكون عليه الدين، وعليه يكون من العبث محاولة إعطاء تلك الجماعات المفهوم الصحيح للدين، فالدين قد يستخدم كوسيلة للمعارضة، أو كأيديولوجية تنمية للمجتمع، ولذلك الأمر كله يتعلق بالعقول التي تدير المنظومة، وهل هي تقليدية أم لديها فكر مختلف ينظر إلى الأمور من زوايا متعددة ولا يستبعد أي احتمال ولا أي فكرة مهما كان مستوى عدم القبول له لكونه خارج أطر القوالب الجاهزة.

والحركات الدينية تعتبر الخلافة والولاء والبراءة والعودة للجذور في تجمعات مغلقة ونشر الإسلام بالقوة ليسود العالم وتكفير الرافض لمبادئها، عوامل جوهرية تقوم عليها وإصلاح المجتمع عن طريق تغيير القوانين والأخلاق والأعراف الاجتماعية والتكوينات السياسية وفقاً لما يرونه الأنسب والأصلح من تعاليم فقهية وتفاسير جعلوها الأساس لبناء فكر ديني خاص بهم، وتبني مبدأ مفاده أن الدين حركة ثورية، وأنه هو المحرر الحقيقي للشعوب، كما يعتبر أن القوى السياسية والمدنية التي تعمل على بناء دولة حديثة ما هي إلا فئات فوقية تؤمن بالنظام الرأسمالي والعلمانية، وهي سبب كل الشرور في العالم والتفاوت في المستوى المعيشي بين الشعوب، وأصحاب هذا الفكر الديني لديهم عقلية الفئة المستضعفة وجنّد الله المكلفين بتمثيل العدالة الإلهية على الأرض وفق إرادة ربانية لا يد لهم فيها، وتلك قناعة ثابتة وحالة نفسية ووجدانية وعقلية أعطتهم حقاً وهمياً يجيز لهم استخدام كل الوسائل لاستعادة الحق المسلوب في سيادة العالم وجعل الإسلام دين كل شخص في العالم أو الموت أو الجزية، وهو عامل نفسي وعقلي في غاية التأثير، ويكاد أن يكون أفيون كل الحركات المتأسلمة المتمردة على سيادة القانون في العالم. وهل يمكننا واقعياً أن نصرح بأنها مفاهيم غريبة ليس لها جذور في موروثنا الديني؟

المصدر: الإتحاد