الحرب الأوكرانية وتداعياتها

آراء

أحداث في التاريخ الإنساني تكتسب أهميتها في كونها تمثل انتقالاً مفصلياً في توازن القوى الدولية. والحرب التي تدور رحاها في أوكرانيا يمكن وضعها، بامتياز، ضمن تلك الأحداث. ولم يجانب الرئيس الأمريكي، بايدن، الصواب حين قال إن العلاقات الدولية، بعد هذه الحرب، ستتغير جوهرياً، وإن ما بعد حرب روسيا على أوكرانيا، ليس كما قبلها. وليس بالمستبعد، أن تسطّر نتائج الحرب شهادة الوفاة للنظام العالمي الذي ساد بعد نهاية الحرب الكونية الثانية، لينبثق من رحم أحداثها نظام دولي، يعكس الحقائق الجديدة لتوازنات القوة.

فهذه الحرب، رغم أنها تدور بين روسيا وأوكرانيا، لكنها في حقيقتها، حرب بين الشرق والغرب. والروس أشعلوها للحيلولة دون انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، ولعدم تمكينها من حيازة أسلحة نووية.

وفي الحروب ليس هناك حق أو باطل مطلق، فهي صراع بين إرادات. والأزمة الأوكرانية ليست وليدة اليوم، ولا يمكن قراءتها خارج التاريخ المعاصر.

انتهت الحرب العالمية الثانية، بهزيمة ألمانيا عام 1945، بعد اجتياح واسع للقوات السوفييتية من الشرق إلى الشطر الشرقي من برلين، ووصول القوات الأمريكية إلى شطر المدينة الغربي. وباتت هذه المدينة منذ ذلك الحين، حتى نهاية الحرب الباردة، نقطة فاصلة بين الشرق والغرب. فالدول الواقعة في شرقيها، باتت من حصة الاتحاد السوفييتي، أما الجزء الغربي، فعرف بالعالم الحر.

وكما كانت برلين نقطة البداية في التقسيم بين الشرق والغرب، كان سقوط حائط المدينة، في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، إعلاناً بانتهاء الحقبة السوفييتية، ونهاية للحرب الباردة، وتربع الولايات المتحدة على عرش الهيمنة الدولية.

انفرط عقد الاتحاد السوفييتي، في مطالع التسعينات من القرن الماضي، وأعلنت جمهورياته الاستقلال، وتحمّس الغرب لذلك. وكانت أوكرانيا ضمن الدول التي أعلنت استقلالها. وبالمثل، انفرطت الكتلة الاشتراكية، وفقد حلف وارسو الذي يجمعها، مبررات وجوده.

ومنذ ذلك الحين، باتت العلاقة بين أمريكا وروسيا توصف بالشراكة، وتعهد الرئيس الأمريكي، جورج بوش، خطياً للرئيس جورباتشوف بعدم تمدد حلف الناتو شرقاً. لكن لقانون القوة أحكامه، فالغرب المنتصر، مزق تعهده لروسيا، وبدأ بضم بلدان الكتلة الاشتراكية والجمهوريات السوفييتية السابقة، إلى حلف الناتو، والاتحاد الأوروبي. ولم يكن بمقدور الاتحاد الروسي، المثقل لحظة تأسيسه بأزماته السياسية والاقتصادية، أن يواجه الطموحات الأمريكية، في التوسع. ولم يكن بمقدور أمريكا مغالبة جموح القوة.

لكن الأمور تغيرت كثيراً، منذ نهاية العقد الأول، من هذا القرن. فالدب القطبي، استيقظ بسرعة من سباته، وعاد بقوة للمسرح الدولي، يسعفه في ذلك وجود قيادات شابة، تعهدت باستعادة الكرامة الروسية التي طعنت بالصميم، بتفكيك الاتحاد السوفييتي، وتفرد أمريكا، بالهيمنة على العالم.

رفضت روسيا بوتين القبول بسياسة الأمر الواقع، وعارضت بقوة ضم جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة «للناتو»، لأن ذلك سيجعل منها سيفاً مسلطا فوق رقبة روسيا. وهددت بأنها ستستخدم كل الوسائل للحيلولة دون ذلك، بما في ذلك العمل العسكري.

والحرب التي تدور رحاها الآن، سببها تمسك أوكرانيا بالانضمام لحلف الناتو، ومطالبتها بنصب صواريخ برؤوس نووية، فوق أراضيها. والحرب في هذا السياق، لم تكن مفاجئة للمتابعين لمجريات الأحداث، وضمنها رفض الإدارة الأمريكية تقديم ضمانات لروسيا، بعدم التمدد العسكري، على حساب مصالحها الاستراتيجية، أو الاتفاق على تبنّي سياسة أمنية مشتركة قائمة على التكافؤ والتوازن والمساواة.

روسيا تعتبر الحرب فرصة لإعادة تشكيل الخريطة الأوكرانية، بانتزاع إقليم دونباس من أراضيها. وتتطلع روسيا إلى أوكرانيا منزوعة السلاح، وتنصيب حكومة موالية لها، وبذلك يسدل الستار نهائياً على أي تطلع أوكراني مستقبلي للانضمام للاتحاد الأوروبي، ولحلف الناتو.

كان من المتوقع أن يحسم الروس هذه المعركة، خلال الثماني وأربعين ساعة الأولى، لكن طول أمدها يحرج الدول الغربية كثيراً، ويجعلها في نظر الجميع متخاذلة في نصرة حليف لهم يقاوم بشراسة هجوم الجيوش الروسية. ولذلك وجدنا الأمريكيين والأوروبيين يتدافعون منذ اليوم الثالث للحرب، لتقديم المعدات العسكرية لأوكرانيا.

الروس يحاصرون أوكرانيا من جميع الجهات، ولن يسمحوا بتدفق السلاح الغربي، لغرمائهم في الحرب. الجهة الوحيدة المتاحة لاتصال أوكرانيا بالعالم هي الحدود مع بولندا. والخشية هي أن يقدم الجيش الروسي، على مهاجمة قوافل النقل الغربية المحملة بالسلاح والمعدات لنصرة أوكرانيا. وهنا مكن الخطر. ونأمل ألا تنحدر الأمور إلى مواجهة مباشرة بين الغرب وروسيا، يستخدم فيها السلاح النووي، لأن من شأن ذلك، إن حدث لا سمح الله، أن يعرض الجنس البشري بأسره للفناء.

المصدر: الخليج