«الحرب المؤجلة» تطرق أبواب العاصمة الليبية

أخبار

يخيم شبح الحرب على العاصمة الليبية طرابلس رغم إعلان البعثة الأممية التوصل إلى وقف لإطلاق النار حيث تلف حالة من الغموض المهاجِمين، مع سفور كامل لوضعية المستهدَفين، ومخاوف معلنة من الانجرار إلى حرب أهلية داخل العاصمة الليبية في ظل عجز حكومي واضح عن كبح جماح العنف، وتهاون دولي مع مستجدات الوضع الدولي، يفسره مراقبون بواقع الإحباط الواضح الذي يخيم على القوى الإقليمية والدولية بسبب الفشل في الدفع بالفرقاء الليبيين نحو الحل السياسي القادر على إخراج البلاد من النفق المظلم الذي أدخلت إليه منذ العام 2011.

وما يميّز المواجهات الحالية، أن الكثير من الأطراف المحلية كانت قد حذرت منها قبل أشهر، بسبب ما وصفته بـ«تغول» الميليشيات المسيطرة على مفاصل السلطة في طرابلس، وتحول جانب كبير منها إلى «مافيا» تستحوذ على الاعتمادات المالية، وتحدد مصير الصفقات العامّة، وتتحكم في صرف العملة، وتقود مسارات التوظيف والتعيينات في الداخل والخارج، وهو ما أثر سلباً على الوضع الاقتصادي والاجتماعي إلى درجة الحديث عن إمكانية الانفجار القادم، بسبب غياب السيولة، وانهيار منظومة الخدمات، واتساع أزمات الخبز والكهرباء والغاز، وانهيار الدينار الليبي إلى مستوى غير مسبوق، إضافة إلى عودة قوية لظاهرة الاختطاف والاغتيال والنهب المتعمد وفرض إتاوات على التجار لفائدة أمراء الحرب.

طرابلس رهينة

ويجمع المراقبون على أن طرابلس تشهد حالياً «المعركة المؤجلة» منذ فترة طويلة بعد أن وضعت الميليشيات يدها على مقاليد الوضع، لتجعل من العاصمة رهينة لها، وفق ما صرح به نائب رئيس المجلس الرئاسي فتحي المجبري، بعد فراره من العاصمة أواسط يونيو الماضي، واستقالته من منصبه، بعد اقتحام منزله، وتعرضه إلى تهديدات بسبب موقفه الداعم للقوات المسلحة بقيادة المشير خليفة حفتر، حيث أعلن أن «الميليشيات في طرابلس تسيطر على المشهدين الأمني والعسكري وقضت على أي أمل لحماية حكومة الوفاق» لافتاً إلى أن «تهديدات وصلته من أفراد ينتمون إلى الميليشيات المتحكمة في طرابلس بعد تكليفه بملف الإصلاحات الاقتصادية رغبة في الحصول على الاعتمادات».

وتزامنت تلك التصريحات مع دعوات أطلقها سياسيون ونواب ليبيون، طالبوا من خلالها الجيش الوطني الليبي إلى التحرّك باتجاه طرابلس، وهو ما رد عليه الناطق باسم الجيش أحمد المسماري بأنه سيكون في الوقت المناسب، الأمر الذي فسره المحللون بأن طبيعة التوازنات تعيق حسم المشهد، وخاصة في ظل العداء الواضح بين القيادة العامة للجيش وقوى الإسلام السياسي، إضافة إلى تداخل قوى خارجية بهدف الفصل بين شرق البلاد وغربها، خصوصا في ظل الصراع القائم بين باريس وروما حول الملف الليبي.

كما أن وصول الجيش الوطني إلى طرابلس كان سيؤدي إلى صراع دموي قد يمتد طويلاً، لأنه سيعني حرباً ليس مع الميليشيات الموجودة في العاصمة فقط، وإنما مع عشرات الجماعات المسلحة المرتبطة أساساً بجماعة الإخوان وبالجماعة المقاتلة التابعة لتنظيم القاعدة، وبما تصف نفسها بـ«كتائب الثوار» في مدن الساحل الغربي كمصراتة وزليتن والزاوية، وفي مناطق الجبل الغربي.

اتفاق الصخيرات

رغم اختلاف المواقع والمواقف، إلا أن هناك إجماعاً على أن المجلس الرئاسي فشل في تطبيق الترتيبات الأمنية التي تضمنها اتفاق الصخيرات الموقع في 17 ديسمبر 2015، وينص على إخراج الميليشيات المسلحة من المدن الليبية ومن بينها العاصمة طرابلس بعد سحب سلاحها الثقيل، وبعد فترة زمنية يتم سحب ما تبقى من سلاحها الخفيف، على أن تتم بعد ذلك ترتيبات دمج عناصرها في قوات الجيش أو الشرطة أو في وظائف مدنية أخرى حسب الشروط المطلوبة للوظائف والمتوافرة لدى كل شخص، وهي الترتيبات ذاتها الواردة في النقطة السابعة من نص الاتفاق الموقع بين رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج والقائد العام للجيش المشير خليفة حفتر، خلال لقائهما الباريسي في يوليو 2017، حيث أكدا على «الالتزام ببذل كافة الجهود المطلوبة لنزع سلاح المقاتلين، وإعادة دمج المسلحين الراغبين في الانضمام إلى القوات النظامية الوطنية، وإعادة دمج الآخرين في الحياة المدنية الاعتيادية. وسيتألف الجيش الليبي، وفقاً للاتفاق، من القوات العسكرية النظامية للدفاع عن الأراضي الليبية، بموجب ما تنص عليه المادة 33 من الاتفاق السياسي الليبي.

مراكز نفوذ

وبينما كان ينتظر الليبيون، تفعيل تلك الترتيبات، شهدت طرابلس في مايو 2017 طرد الميليشيات القادمة من خارجها، وخاصة من مصراتة والجبل الغربي، إلا أن ذلك لم يحل المشكلة. فالميليشيات المحلية سيطرت على الوضع بأكمله، وتقاسمت الغنيمة في ما بينها، ورغم حالة الأمن العام النسبي البادية للعيان، إلا أن ما يدور في الخفاء كان مقلقاً للجميع، حيث نتجت عنه مراكز نفوذ سياسي واقتصادي واجتماعي يقابلها اضمحلال لدور حكومة الوفاق، ما جعل المستشار الإعلامي لرئيس مجلس النواب الليبي، فتحي المريمي، يؤكد أن العاصمة الليبية طرابلس تقع رهينة لسيطرة عدد من الميليشيات المسلحة، داعياً الجيش إلى التدخل لفك أسرها.

وطالب النائب في البرلمان الليبي، طلال الميهوب بإخلاء العاصمة الليبية طرابلس، من الميليشيات المسلحة التي قال إنها «تسيطر على دوائر الحكم في البلاد»، معتبرا أن «المبعوث الأممي لدى ليبيا، غسان سلامة، مخيّب للآمال، وعليه تحديد موقفه من سيطرة الميليشيات على العاصمة».

الموقف الأممي

ولم يتأخر موقف البعثة الأممية طويلاً، حيث أعربت في بيان لها في 19 أغسطس الماضي عن إدانتها الشديدة لما وصفته بأعمال العنف والتخويف وعرقلة عمل المؤسسات السيادية الليبية من قبل رجال الميليشيات، مشيرة إلى أن أفراد الكتائب العاملة اسميا تحت إشراف وزارة الداخلية في حكومة السراج، يهاجمون المؤسسات السيادية ويمنعونها من أداء عملها بشكل فعال. ولم تحدد البعثة في بيانها أي أسماء، ولم تذكر هوية الميليشيات التي اتهمتها بالتدخل في إدارة شؤون البلاد، لكنها اعتبرت في المقابل أن «التدخل في عمل المؤسسات السيادية وفي الثروة الوطنية الليبية أمر خطير ويجب أن يتوقف على الفور»، ودعت حكومة فائز السراج إلى «اتخاذ الخطوات اللازمة لمقاضاة المسؤولين عن هذه الأعمال الإجرامية». وأضافت أن «الأمم المتحدة ستقدّم تقريراً بهذا الشأن إلى المجتمع الدولي، وستعمل مع جميع السلطات المختصة للتحقيق في إمكانية فرض عقوبات ضد أولئك الذين يتدخلون أو يهددون العمليات التي تضطلع بها أي مؤسسة سيادية تعمل لصالح ليبيا والشعب الليبي».

فساد بغطاء ميليشياوي

وجاء الموقف الأممي بعد أن كشفت المؤسسة الليبية الوطنية للنفط، عن تعرض عدد من موظفيها للاختطاف من مقار أعمالهم بقوة السلاح من قبل مجموعات مسلحة. كما تعرّضت المؤسسة الليبية للاستثمار (الصندوق السيادي الليبي) إلى تهديدات وعمليات اختطاف طال بعض مسؤوليها في الأسابيع الماضية من قبل مجموعات مسلحة يعتقد بأنها تعمل اسمياً تحت إشراف وزارة الداخلية.

وفي مارس الماضي، نقلت مصادر ليبية عن لجنة خبراء الأمم المتحدة أنها تعرضت لتهديدات مباشرة من ميليشيات تسيطر على العاصمة طرابلس بعد أن تم تسريب تقرير من 160 صفحة يكشف عن عمليات فساد ونهب واسعة لأموال عامة، عبر عمليات مصرفية وهمية، لصالح بعض قادة ميليشيات تسيطر على مصارف في طرابلس، حيث كشف التقرير عن عمليات مصرفية غير قانونية تخص 10 شركات تعمل لصالح جماعات مسلحة موجودة في منطقة (تاجوراء) في العاصمة حصلت على اعتمادات مستندية من مصرف الجمهورية والمصرف الليبي الخارجي بقيمة مليار دوﻻر لكل منهما حتى فبراير 2016.

وفي مايو الماضي أصدر المجلس الرئاسي قراراً بتشكيل لجنة لمتابعة مشروعات العاصمة طرابلس تضمنت أسماء 11 شخصاً بينهم ثلاثة من ميليشيا «ثوار طرابلس» هم عبدالرحمن المزوغي وعبدالحكيم المصري وآمر ميليشيا «باب تاجوراء» الأزهري فنان، إضافة إلى هاشم بشر.

ووفق نص القرار ستتابع اللجنة كل المشروعات التنموية والخدمية بعد حصرها والعمل على تفعيلها مع الجهات المختصة، وستعمل اللجنة أيضاً على معالجة الصعوبات التي تواجه عملية استكمال المشروعات والتأكد من إنجازها.

وتتحكم الميليشيات في سعر صرف العملات الأجنبية لتحصل على فوائد خيالية، حيث تستغل نفوذها للحصول على اعتمادات بالسعر الرسمي للدولار (الدولار يساوي 1،380 دينار)، ثم تعيد طرح تلك المبالغ في السوق الموازية، حيث يصل سعر الدولار إلى أكثر من 7 دينارات، وتستمر في تلك العملية الروتينية إلى ما لا نهاية، في واحدة من أبشع أشكال الفساد واستغلال النفوذ.

وقد تحدثت دراسة للمعهد الألماني للشؤون الدولية والأمن الدولي أن الميليشيات التي تخضع ظاهريا لسلطة المجلس الرئاسي في طرابلس تحولت من جماعات مسلحة إلى «مافيا منظمة» تمتلك شبكات تؤثر في الاقتصاد والأعمال والسياسة والإدارة في العاصمة وهذا ما جعل الاقتصاد الليبي والأموال الليبية تصب في مصلحة فئة صغيرة جدا ودائرة أصغر من أي فترة مضت منذ ثورة فبراير 2011.

نهب

يؤكد المراقبون أن مليارات الدولارات ذهبت إلى خزائن أمراء الحرب وقادة الميلشيات داخل ليبيا وخارجها، بينما يواجه الشعب الليبي الفقر والعوز وفقدان السيولة وانهيار منظومة الخدمات، وقد يقضي المواطن الليبي ساعات طويلة، وقد يصل به الأمر ليقضي ليلة كاملة أمام أحد المصارف حتى يجد لنفسه مكانا متقدما في الطابور صباح اليوم التالي، من أجل الحصول على 200 دينار (حوالي 15 دولاراً وفق سعر الصرف بالسوق الموازية) من رصيده الخاص.

المصدر: البيان