الحلقة الأضعف

آراء

خاص لـ هات بوست: 

فرضت طالبان النقاب على مقدمات البرامج التلفزيونية، ومنعتهم من الخروج كاشفات وجوههن، ولم يشكل هذا مفاجأة لأحد، فالأمر متوقع تماماً، لكن ثمة ما يدعو للتوقف عنده، قد لا يشكل مفاجأة أكثر منه خيبة أمل، هو حجم التأييد لهكذا أفعال ضمن مجتمعاتنا العربية، إذ يمكن قراءة التعليقات على الخبر في وسائل التواصل الاجتماعي للمس آراء السادة المعلقين، حيث تم اعتبار الأمر نصراً للإسلام والمسلمين، و”عزاً” طالما طلبوه من الله تعالى لدينه.

قد تتفهم وجود مناصرة لاضطهاد المرأة في مجتمعات مغلقة تعاني من التخلف بجميع أشكاله، إنما تحميل الإسلام أوزاراً كهذه آن له أن يتوقف، وآن للمرأة قبل الرجل معرفة أن الإسلام غير مسؤول عما تتعرض له، وإنما هي مجتمعات ذكورية تعاني من كل أنواع الاضطهاد، لتصب غضبها على الأضعف فيها، فتتلقى النساء الصفعة تلو الأخرى، دون أن تتجرأ على التمرد، إلا فيما ندر، لتعود وتصب هي الأخرى غضبها في أبنائها، منتجة جيلاً من المعنفين الذين سيمارسون مستقبلاً الاضطهاد على من أضعف منهم، في حلقة مفرغة لا نهاية لها.

فإذا عدنا للإسلام كما جاء في التنزيل الحكيم، نجد أن الله تعالى اعتبر الحرية أساس الخلق، وهو سبحانه ميزنا عن الكائنات بنفخة الروح، من خلالها أصبحنا مسؤولين، نملك حرية الطاعة والمعصية، ليحاسبنا في اليوم الآخر، وإلا لما كان لحسابنا معنى، ولولا أن آدم عصى ربه لما عرف معنى الطاعة والتوبة والمغفرة، ونحن أبناء آدم، لنا مطلق الحرية في فعل ما نشاء، من يطيع ومن يعصي {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة 256)، وهذا ينطبق على الذكور والإناث، لا على طرف واحد.

أما الشق الثاني فهو سطوة الرجال على النساء دونما وجه حق، فالخلق واحد والحساب عند الله واحد، لا تمييز بين هذا وتلك، وفي الآخرة كل إنسان مسؤول عن نفسه، والخطاب في كتاب الله واضح {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب 35) أي هما متساويان، مع ملاحظة “الحافظين فروجهم والحافظات”، حيث المتعارف عليه في مجتمعاتنا أن للفاحشة طرف واحد هو المرأة، ولا يعيب الرجل ما يرتكبه في هذا الحقل، أما موضوع القوامة والضرب فقد أصبح ممجوجاً النقاش فيهما، ومن يريد اجتزاء الآيات للافتراء على الله فهذا عين الإثم.

لكن الحاصل في الذهنية “الإسلامية” اعتبار أن المرأة ملك الرجل، لم ينفك عن اسوداد وجهه حين يبشر بولادتها، كونها ستجلب له العار، فشرفه مقتصر عليها، ويربيها باعتبارها “الحلوى” عليه تغطيتها من الذباب، كونه هو وأمثاله ذباباً، ولا يلبث أن يرميها لأول قادم كي يستر عليها، ومن ثم يصبح تعبير كـ “أترضاها لأختك” مقبولاً ومتعارفاً عليه، لأن أخته ملك له، ليست كائن مستقل بذاته، يمكنها أن تحدد ما يليق بها وما لا يليق، وستحاسب في الآخرة على عملها مثله تماماً.

وإذا كانت كل هذه الأمور تبدو مقبولة في مجتمعات “طالبان”، علماً أن المجتمع الأفغاني سابقاً كان على درجة من التقدم، لا يبدو الأمر مقبولاً في مجتمعاتنا، التي تدعي الحضارة وينظر أفرادها إلى الآخرين بفوقية ملحوظة، وفي الواقع المرأة تعمل في البيت وخارجه، وتحمل أعباء الأسرة كالرجل تماماً، لكنها تبقى في نظره أقل شأناً، وهو مسؤول عن تصرفاتها، رغم أنه قد لا يكون مسؤولاً عنها مادياً، وقد تراه متعلماً و”مثقفاً” لكن هذا لا يحول دون التصفيق لمنع المذيعات من الظهور بلا نقاب.

أما إذا عرجنا على موضوع لباس المرأة، فتغطية الوجه لم ترد في التنزيل الحكيم، ومفردة “حجاب” وردت بمعنى حاجز يفصل بين نساء النبي (ص) ومن يرد أن يسألهن امراً ما، كي لا يزعجهن ويقلق راحتهن، وآيات اللباس واضحة، توجه لما يدرأ الأذى عن الإنسان، أذى الطقس والأذى الاجتماعي، وليس الغرض منها تهديد بثواب أو عقاب، أما من يرضى لنفسه أن يكون ذباباً فهذا شأنه، مع احترام حرية كل إنسان بارتداء ما يريد، وكل مجتمع اعتماد أزيائه، دونما جعل الإسلام عنواناً للباس دون آخر، ودونما اعتبار هذا اللباس مقياس لتقييم تدين المجتمع، فيصبح من ثم غطاء الرأس غطاءً لكل أشكال النفاق والرياء في مجتمعات تغض الطرف عن موبقات كثيرة.

خلاصة القول، قد يجدها البعض عبارة نمطية فارغة، لكنها حقيقة فعلية: الإسلام بريء من كل هذا، لا سطوة للرجل على المرأة، ولا إكراه فيه، ولا نقاب، و”الحجاب” موضع نقاش، الإسلام هو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، ونصرته وعزه تأتي من ارتفاع منسوب القيم الإنسانية، بكل ما تحمله من أخلاق وحب وسلام وعمل لما فيه خير، خير على هذه الأرض كلها، من علم وطب وبيئة ومناخ، بحيث يحقق الإنسان ما يجعله جديراً بالخلافة التي خلقه الله لأجلها، وعلينا جميعاً إصلاح الصورة، وإلا سنفسح المجال لأمثال طالبان ليكونوا التعبير الأوحد عن ديننا الذي نحمل لواءه، إن لم يصبح التطبيق حاضراً أيضاً.