السعودية: تحالفات الشرق ومصالح الغرب

آراء

السياسة ليست فن الممكن فقط، بل هي القدرة على رؤية الواقع واستشراف المستقبل، والعمل وفقاً لذلك. وخريطة التحالفات العالمية تتغير، وأقطاب القوى تتشكل، ومعها المخاطر تتزايد والفرص تتاح. والدول القادرة على فهم هذه الخريطة، والمبادرة بأن تكون سباقة، هي الدول القادرة على صناعة التغيير وإحداث الفرق.

والسعودية رغم أنها تاريخياً تملك علاقات قوية مع دول الغرب، فإنها في استراتيجيتها الجديدة التي تتضح معالمها يوماً تلو آخر أعادت تشكيل خريطة علاقاتها الدولية، من مبدأ الانفتاح على الكل، وبناء علاقات ومصالح، والدخول في شراكات استراتيجية. وهذا لا يعني البديل، ولكنه المكمل، من منطلق أن الدول الكبيرة لا تحصر رهاناتها على تكتل واحد أو دولة واحدة، بل تبني شبكة علاقات واسعة ومتوازنة في الوقت نفسه. ومن يلاحظ زيارات القيادة السعودية يدرك مضمون هذا التوجه. فولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وبعد زياراته الناجحة إلى كل من باكستان والهند والصين، عززها بزيارة لكوريا الجنوبية واليابان التي حرص فيها على زيارة هيروشيما وطوكيو، بعد انتهاء قمة العشرين في أوساكا. وهو الذي كان قد قام قبل ذلك بزيارات مهمة للولايات المتحدة ودول أوروبية.

ومن يراقب هذه الزيارات يعرف أنها تتم بعد تجهيز واسع، وفرق عمل مشتركة للتحضير ودراسة كل الملفات ذات العلاقة. فيعرف عن الأمير اهتمامه بأن تكون هذه الزيارات ذات نتائج فعلية، وليست فقط زيارات بروتوكولية، بل إنه قد يلغي الزيارة إذا لم يجد هناك إعداداً كاملاً ونتائج مهمة لزيارته.

ولقد شكلت زيارة ولي العهد إلى كوريا الجنوبية منعطفاً مهماً في العلاقات السعودية – الكورية، ولاحظ المراقبون الاستقبال الاستثنائي والاهتمام الرسمي والشعبي. وفي حفل الاستقبال والغداء الذي أقامه الرئيس الكوري للأمير محمد حضرت أهم الأسماء في مجال الأعمال والاستثمار، وحرص الأمير في مساء اليوم نفسه على عقد اجتماعات فردية معهم. وينظر الوسط الاقتصادي إلى «رؤية 2030» السعودية على أنها مجال سيفتح فرصاً هائلة للاستثمار المشترك ومشاريع جديدة.

وربما كان حديث الرئيس الكوري مون جيه إن عن أهمية السعودية مؤشراً لرؤية كثير من دول شرق آسيا تجاه السعودية، فهو يصفها بأنها دولة مهمة ومؤثرة، وهي المورد الأول للنفط الخام لكوريا، والدولة الأكبر من حيث المشاريع التي تقوم بها الشركات الكورية في الخارج، بالإضافة إلى أنها أكبر دولة مستثمرة في كوريا، وهذا يتفق مع مفهوم الانفتاح السعودي على الشرق والغرب في وقت واحد، فالعلاقات مع الغرب قوية، والشراكات الاقتصادية والمشاريع المشتركة تنمو بشكل متزايد، لكن في الوقت نفسه تجد المعطيات نفسها في العلاقات السعودية مع دول الشرق.

ويمثل تدشين ولي العهد لتوسعة مصفاة النفط «إس – أويل»، بقيمة ستة مليارات دولار، مرحلة جديدة في التوسع الاستثماري في كوريا، فهي ثالث أكبر مصافي نفط كوريا، وتملك شركة «أرامكو السعودية» ستين في المائة منها. ويقول الأمير إن السعودية تسعى إلى تأسيس علاقة التعاون الاستراتيجي التي تنتج القيم المضافة من خلال أعمال الشراكات الحيوية بين البلدين.

وشكل حضور الأمير محمد لقمة العشرين في أوساكا إضافة مهمة، فالسعودية هي الدولة المستضيفة لقمة العشرين المقبلة في الرياض، كما أن اللقاءات المهمة التي عقدها مع زعماء العالم جذبت الاهتمام الإعلامي. فلقاؤه مع الرئيس الأميركي ترمب عكس عمق العلاقة السعودية – الأميركية، والعلاقة الخاصة بين الأمير محمد وترمب الذي قال «إنه شرف لي أن أكون مع ولي عهد السعودية، وهو صديق لي، ورجل فعل بشكل حقيقي أشياء خلال السنوات الخمس الماضية، فيما يتعلق بانفتاح السعودية». ومثل هذه التعليقات من زعيم أكبر دولة في العالم لها دلالاتها السياسية وتأثيرها الإعلامي.

وقد كان واضحاً من خلال حضور الأمير في قاعة الاجتماعات الرئيسية للمؤتمر، أو في الجلسات والاجتماعات الجانبية مع الزعماء الحاضرين للقمة، العلاقة الشخصية المباشرة للأمير مع زعماء العالم التي يوظفها بذكاء من أجل تحقيق نجاح سياسي وعلاقات قوية وشراكات ومصالح متبادلة. والسعودية وإن كان ينظر لها كلاعب اقتصادي مهم عالمياً، نظراً لدورها في مجال الطاقة والأعمال، فإنها أكدت حضورها السياسي والمؤثر من خلال تصديها للعبث الإيراني في المنطقة، وتصديها للسياسات التخريبية والميليشيات، ووقوفها في وجه الإرهاب، ولذلك لم يكن مستغرباً أن أشاد الرئيس الأميركي بدور السعودية، قائلاً إن «العالم كله ممتن لجهود السعودية في مكافحة الإرهاب».

الأمير محمد حرص في جولته على زيارة رمزية ولكنها مهمة، وجدت صدى كبيراً لدى الشعب الياباني، حيث زار هيروشيما والمتحف التذكاري للسلام. والتقى سيدة يابانية نجت من الموت بعد إلقاء القنبلة النووية على هيروشيما، واستمع إلى قصتها، وكان واضحاً الاهتمام الإنساني للأمير محمد بهذا الجانب، كما أنها في الوقت نفسه رسالة سياسية بأن السعودية ضد انتشار الأسلحة النووية، وتؤيد نزع السلاح النووي. وهي من أوائل الدول التي انضمت إلى معاهدة منع انتشار السلاح النووي. ولذلك تتفق السعودية مع الولايات المتحدة في موقفها القوي ضد المشروع النووي الإيراني الذي يشكل تهديداً ليس للمنطقة فحسب، بل للعالم بأكمله.

وفي جانب العلاقات السعودية – اليابانية، كان اجتماع ولي العهد مع رئيس وزراء اليابان شينزو آبي مهماً لتكملة مشروع علاقة استراتيجية وضع حجر أساسها في 2016، في أثناء زيارة سابقة للأمير محمد لطوكيو، تم خلالها تأسيس الفريق المشترك للرؤية السعودية – اليابانية المشتركة. ومن الواضح أن اليابان تنظر إلى مشروع الرؤية السعودية باهتمام كبير ومتابعة، فقد قال رئيس الوزراء للأمير في اجتماعهما في أوساكا إن «رؤية السعودية 2030» عملية إصلاح رئيسية غير مسبوقة تهدف إلى وقف الاعتماد على النفط وتنويع الصناعة.

السعودية رسالتها واضحة. نعم، نتجه شرقاً، ونعزز علاقاتنا ومصالحنا هناك، ولكن في الوقت نفسه تؤكد الرياض أن علاقاتها تتكامل مع كل الدول المهمة في العالم، وترتبط معها بشراكات ومصالح، وهي تدرك أن عربة السياسة مهما كانت مندفعة فالذي يقودها في نهاية المطاف هو دفة الاقتصاد.

المصدر: الشرق الأوسط