رشيد الخيّون
رشيد الخيّون
دكتوراه في الفلسفة الإسلامية من أهم مؤلفاته "الأديان والمذاهب بالعراق"، و"معتزلة البصرة وبغداد"، و"الإسلام السياسي بالعراق" و"بعد إذن الفقيه".

الشَّوك.. صلح للثَّقافة لا السِّياسة

آراء

رحل علي الشُّوك(1929-2019) تاركاً مكتبةً ثريةً مِن مؤلفاته، في اللغة والأساطير والموسيقى، فقد ظل عاكفاً على الكتابة، بعد انقطاعه عن السياسة كليةً، إثر اعتقاله وتعذيبه، فقبل ذلك لم يُعد وجوده في الحزب الشيوعي العراقي سياسياً بقدر ما كان ثقافياً، فهو كائن ثقافي لا يصلح للسياسة، وعلى وجه الخصوص ببلد مثل العراق، صاحب النشاط السياسي فيه يعيش على خطرٍ، فالانتماء إلى حزب معارض يحتاج إلى أجساد تتحمل أهوال السجن ولفح السياط، ولا أظن الشّوك وما طُبع عليه بقادر على ذلك، ومَن ظل مجافياً له بسبب ضعفه تحت قسوة التعذيب، لا يرى فيه غير السياسي أو الحزبي المتخاذل، مع أن كل ما في الشّوك يصرخ أنه لم يعد نفسه سل الأظافر والتعليق في السقوف منكس الرأس والجلد بخراطيم مُكربة.

كان أسلوبه في الكتابة ساحراً، كأنه يعزف على البيانو الذي تعلم العزف عليه مبكراً، ومَن يبدأ في الكتابة عليه بقراءة كتبه ومقالاته، كي يتعلم طراز الكتابة الأنيقة الخالية من التقعر، أسلوباً وبحثاً، وهذا ما نُصحتُ به عند بداية مشوار الكتابة. لم يتطلع الشّوك إلى الأضواء، على الرَّغم مِن الاعتداد بنفسه، وبعد محاولات معه وافق على الظهور في برنامج «روافد» في قناة «العربية»، وقد قلتُ له: «أنت بيننا كأبي الهذيل العلاف بين المعتزلة»، أعجبته العبارة، وقد هيجت الغرور في نفسه، شعرتُ بذلك من ابتسامته العريضة. كان على اعتقاد أن ما حدث للعراق مؤامرة كبرى على المنطقة. كذلك قال لزوجته وهما في شهر العسل، وقد حدث انقلاب تموز 1968: «العراق انتهى»، وبالفعل جاءت الحوادث سراعاً لينتهي الحال إلى ما آل إليه.

بدأ ممارسة الكتابة 1958 راداً على علي الوردي في «وعاظ السلاطين»، وهو المتخصص في علم الرياضيات، ثم سطع نجمه في كتابه «الأطروحة الفنطازية» (1970)، التي أحدثت جدلاً في الوسط الثقافي العراقي آنذاك، وجاءت كتبه تباعاً «الدادائية»، «الموسيقى الإلكترونية»، «الأساطير والمعتقدات القديمة»، «روائع الشعر السومري»، «جولة في أقاليم اللغة والأسطورة»، «الموسيقى بين الشرق والغرب»، «التلاقح الحضاري بين الشرق والغرب» ورواية «الأوبرا والكلب»، و«البيانو»، ثم رواية سيرته الذاتية «السراب الأحمر»، وبعدها سيرته مع الكتابة «الكتابة والحياة» وغيرها. كنتُ أصاحبه إلى مكتبة جامعة لندن(سواس)، وبعد حين كف عن كتابة البحوث وعن الذهاب إلى المكتبة، متجهاً إلى الرواية، فهمة البدن قد خذلته.

يأتي الشَّوك إلى البحث في الألفاظ العامية «الضاربة في القدم»، مثل «أكو ماكو» التي يختص بها العراقيون دون غيرهم، ويرد على مَن اعتقد بأصول السومريين الكردي في بحث تحت عنوان: «السومريون ليسوا أكراداً»، ناقش فيه رأياً غريباً خالياً من الأدلة التاريخية، وفي بحث «الدماغ وأثره في الأنغام والكلام» كشف سر قدرة المتأتئين على الغناء مع تعثرهم في الكلام، لأمر فيسيولوجي في الدماغ. كشف النقاب عن أصل مفردات عربية كثيرة منها: الصابون، ومعنى المسافة عند العرب، والمشترك بين الاسم والوسم والوشم، والصفير والصفر والضفدع، والكساء والغطاء، والكفر والغفران، والعجلة والجولان، والجالية والجيل، والقيثاء والغتيار والستيار، ثم بحث في الجذور اللغوية للمواد ذات المذاق الحلو، باحثاً عن السكر لغة وتاريخاً.

يذكرنا عمل الشّوك في روايته «السراب الأحمر»(سيرة هشام المقدادي) بعمل التوحيدي (ت 414هـ) «حكاية أبي القاسم البغدادي»(الرسالة البغدادية)، والاسم المستعار لمؤلفها أبو المطهر محمد بن أحمد الأزدي، وربما سيتنازع، بعد زمن طويل، حول هشام المقدادي، هل هو الشوك أم أنه شخصية أخرى، مثلما تنازع النقاد في صاحب الحكاية: هل هو الأزدي أم التوحيدي، الذي كانت قصته قصة لمدينة بغداد ليوم وليلة واحدة، تمكن فيها التوحيدي من قول ما لا يمكن قوله.

إنها الرواية أو السيرة التي أفقدت الشّوك صداقات تمتد إلى عقود، فقد أفاض بما يعتقده الأصدقاء، ويخصهم فيه، أسراراً لا يجوز كشفها، ومع أنه نسب تلك التفاصيل إلى أسماء مستعارة، مثل استعارة اسم هشام المقدادي، لكنهم قاطعوه قطيعة تامة، حتى أن أحدهم أغلق بوجهه سماعة التليفون، عندما أراد السؤال عنه، ومنهم مَن رحل قبله، كانت حجته في إصراره على ذكر تلك المواقف لأنها جزء من سيرته.

ينتمي علي الشُّوك إلى مدرسة راقية في فن الكتابة، تجمع بين الأصالة والحداثة، بين قوة الأسلوب والمعلومة، هذا الجيل الذي أخذ يندثر، في عصر إشاعة الكتابة بلا أُصول وقيود، ولا أجد مبالغة إذا قلت: كان الشّوك عليّاً في الكتابة. أختم بعبارة جزيلة لفاروق يوسف في الشّوك تحت عنوان: «ساحر الرياضيات الذي مَوسق حياتنا»: «كائن بشري من طراز فريد ونادر من نوعه، بعكس فكرته، فإن وجوده سيكون دائماً مصدر سعادة، وليست الراحة إلا واحدة من درجات الوصول إليه، الرجل الذي يقيم دائما في الأعالي»(صحيفة العرب 26/5/2016). نعم في الأعالي كتابة وخيالاً.

المصدر: الاتحاد