الصحوة مرض نفسي أم موقف فكري

آراء

تقرأ خبرا عن شخص مارس الدعارة مع امرأة ثم اعتدى عليها بسبب حديثها غير اللائق عن أحد رموز الصحوة، ثم تقرأ خبرا أكثر غرابة عن مجموعة من السكارى اختلفوا إلى حد التشابك بالأيدي بسبب نقاش حول جواز وجود شجرة الكريسماس في متنزههم لأن فيها تشبها بالكفار!!

هذه الأخبار وأمثالها تطرب لها الحركات الإسلامية وتستشهد بها تحت دعوى «بذرة الخير وحب الصالحين ما زالت موجودة في قلوب هؤلاء»، أي أن ما يهم هذه الحركات هو الولاء المطلق لها ولا يعنيها مستوى السوية الأخلاقية للتابعين، فالتوبة عند الحركات الإسلامية لا تعني تعديل السلوك بقدر ما تعني تعديل الشكل من خلال إطالة اللحية وتقصير الثوب، ولهذا فلن تتفاجأ بعد ذلك باعتداء «داعية» على ابنته إلى حد الوفاة، والحقيقة أن هذا «الداعية» ليس إلا شخصا عدوانيا ذا استعداد إجرامي غطى هذا السلوك بمتطلبات «التوبة الصحوية» التي لا يهمها السلوك.

ويبقى السؤال: لماذا تظهر هذه الغرائب بين مجموعة سكارى أو ممارسي الدعارة دفاعاً عن رموز الصحوة، وهذا المقال يحاول الاتكاء على أدبيات «علم النفس»؛ لتفسير مثل هذا السلوك الذي يفسره البعض بالنفاق، بينما المنافق يعرف ذاته وأهدافه جيداً، ولهذا لن نتحدث في هذا المقال عن «أصحاب اللحى والثياب القصيرة ممن مارسوا النصب والاحتيال على الناس في تشغيل الأموال، وممن مارسوا الدجل الاجتماعي إذ يحرمون مثلاً الابتعاث والسفر للخارج ثم يفتخرون بتخرج بناتهم وأولادهم من جامعات الغرب»، فهذه الفئة منافقة تعرف ذاتها وأهدافها وهي خارج الاستقراء، فما يبحث فيه المقال هم أولئك الذين يخلصون لرموز الصحوة وقضاياها كأنهم يؤدون «كوميديا سوداء»، وهنا نعتب على علماء النفس عندما لا يحاولون تفكيك هذه السلوكات التي لا تعتبر نفاقا، بل هي صادقة جداً، ولهذا فيمكن توصيفها من خلال علم النفس، فنسميها «العصاب» من باب المقاربة للأمراض النفسية، وبهذا نتفهم أن هؤلاء الأشخاص «السكارى والداعر» مثلاً عندما يدافعون عن أفكار ورموز الصحوة، فإن ذلك عائد لمرض نفسي يسمى «العصاب» أكثر من إدراجها ضمن الفهم والقناعات الدينية السوية، فالقناعة الدينية السوية والفهم الراشد للحياة لا علاقة له بكل طقوس «الهوس الصحوي» لكيف تلبس، وكيف تأكل، وكيف تشرب، وكيف تتكلم، وكيف تفرح، وكيف تحزن، وكيف تقعد، وكيف تقوم، وكيف تمشي، وكيف تقف، وكيف تحب، وكيف تكره، وكيف تقص شعر رأسك، وكيف، وكيف، وصولاً إلى الإنشغال النفسي المريض بكيف يلبس ولد ابن خالة جيرانكم؟! بشكل يؤكد الدخول في نفق «الهوس النفسي»، ثم تعميم المهووس وسواسه القهري على الآخرين من حوله، وكل هذا باسم الدين.

وكلنا يعلم أن معظم الأمراض النفسية تكون ذات أسباب تنشأ غالباً في الطفولة، فكيف لو عرفنا أن الصحوة هيمنت على المناهج، ثم تم قسر الناشئة على استدماج الشيء ونقيضه بشكل مرعب داخل وجدان الطفل، ولنضرب مثلاً على «تحريم كثير من المباحات كالتصوير والصور في عز سنوات الصحوة وإقناع الطلاب عبر أشرطة الكاسيت مع ميلودراما مرعبة لعذاب القبر حتى أحرقوا صورهم التذكارية»، وعندما يدخل الطالب الذي تلقى هذه التعاليم إلى مكتب مدير المدرسة ويرى صورة ولاة الأمر معلقة على الجدار، فإنه يتساءل عن تناسق ما تعلمه على يد «المعلم الصحوي»، وما يراه في غرفة المدير، وهنا ينشأ التناقض ما بين قناعته الدينية وواقعه المدرسي، فإما أن يعالج التناقض من خلال «النفاق» لصالح «الصحوة وتعاليمها» وضد «الدولة وأبناء وطنه»، واعياً كامل الوعي بهذا النفاق الذي يسوغه له شيوخ الصحوة تحت باب «التقية»، وإما أن يرجع إلى المنزل فيرى أهله يعيشون حياتهم كمواطنين طبيعيين، فيحاول أن يتناغم معهم بشكل يريح ضميره «الاجتماعي»، ويتناغم مع معلمه «الصحوي» في المدرسة بشكل يريح ضميره «الديني»، وهنا تبدأ أعراض ما نسميه «العصاب» مع الانشطار النفسي بين واقعين يستمرئهما طيلة حياته، فيعيش شاباً منفصم الشخصية بين ما تريده الصحوة وهيكلها الاجتماعي، وما يريده كإنسان طبيعي، ثم إذا تزوج كرر نفس السلوك الفصامي ما بين حياته مع الأصدقاء وحياته في المنزل، بل ويعزز هذا الفصام السلوكي ما بين عالمين بمبررات يعتبرها من علامات النضج بينما هو انتكاس لمراهقة سلوكية لا تستطيع بلوغ الرشد بسبب الذات «المنشطرة ما بين قناعات الصحوة ومتطلبات الحياة الطبيعية» في كل قرارات حياتها «الخطير أن تترسب قناعات الصحوة في اللاوعي، لتجد من يستنكر أدبيات الصحوة بعقله الواعي في كل ما يقوله ويكتبه، ولكنك تراه في تفاصيل حياته الأسرية رهين تعاليمها في لا وعيه»، ولهذا يعذر «الصحوي القديم» الذي اعتبر الصحوة «لوثة نفسية» يصعب الفكاك منها بسهولة.

«العصاب» يلغي المنطق في النقاش، فتقول لأحدهم: إن السبي الذي تقترفه داعش بحق النساء يسمى «اتجارا بالبشر»، فتراه يجيبك بانفعال «منفصم عن الواقع»، وبهدوء مفتعل بقوله: بيني وبينك «اختلاف في المرجعيات»، فنحن مرجعيتنا الأخلاقية دينية، ومرجعيتك الأخلاقية فلسفية، وعند مناقشته أكثر تكتشف أن مرجعيته ليست دينية بالمعنى الذي حمله الأنبياء للبشر كدعاة سلام ورحمة للبشرية، بل مرجعيته «صحوية» بكل ما في الصحوة من «يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون»، ولأن بعضهم يعلمون فإنهم لا يمانعون من التراجع عن أقوالهم القديمة التي لووا ألسنتهم بها سنين طويلة على رؤوس الأتباع من الدهماء «العصابيين»، والتقدم باعتذار يتلوه اعتذار، فالمهم أن يبقوا سادة المشهد بكثرة الرقص على الحبال، مخلفين وراءهم أعداداً غفيرة من «العصابيين» يعيشون اضطراباً قد يقودهم إلى مرحلة مرضية أكثر تعقيداً وتسمى في علم النفس «اضطراب الهوية التفارقي»، وللمعلومية فإن علينا تخيل أحد المصابين بأحد هذين المرضين «العصاب، اضطراب الهوية التفارقي» يتصدر المشهد الصحوي؟!! كيف يمكن لأحد أن يقنع الدهماء بأنه مجرد مريض نفسي حتى ولو لوى لسانه بالآيات والأحاديث، فالمرض النفسي «العصاب» أكثر

ما تجده لدى أبناء الأسر التي أصابتها «لوثة الصحوة»، ولم تستطع الخروج من آثارها النفسية حتى اللحظة، ويفضلون تسمية هذه الأمراض النفسية باسم يضخم ذواتهم ويعطيهم رضى عن أنفسهم كمحسودين من خلال «مسحور أو عليه نظره/‏ معيون»، وحقيقة الأمر تكمن في «الحصر النفسي الشديد» الذي يعيشه أبناء من أُشربوا «بشكل قسري» تعاليم الصحوة، وما قد يقود إليه من «عصاب واضطراب الهوية التفارقي».

المصدر: الوطن