سمير عطا الله
سمير عطا الله
كاتب لبناني

الصحيفة الخامسة

آراء

هذا الصيف ذكرى مائتي عام على هزيمة نابليون في معركة واترلو، إحدى ضواحي، أو أحياء بروكسل. الكاتب العظيم ألكسندر دوماس يصف كيف شاهد الإمبراطور متوجهًا إلى المعركة في عربته، وكيف عاد منها شاحبًا ومنكسرًا. بمحض المصادفة، وقعتُ على شيء مختلف من أوراق نابليون: نصوص الأوامر التي كان يوجهها إلى ضباطه وجنوده. والذين منا كان قد رسخ لديه أن «البروباغندا» بدأت مع وزير هتلر جوزيف غوبلز، يجب أن يعودوا إلى مرحلة نابليون. من أجل معنويات جنوده ومعنويات الفرنسيين، كان الرجل يكذب. وكان يحجب الحقيقة، ولذلك، سلط الرقابة على الصحافة. وعندما فقدت الصحافة ثقة الناس، فقدت قراءها. وافتقرت. وأفلست. وبعدما كانت باريس تحتار بين 24 صحيفة كل يوم، انخفض العدد إلى أربع. وهو العدد نفسه الذي انخفضت إليه صحف دمشق وبغداد وليبيا الفاتح العظيم في الجماهيرية العظمى، بعد نزول «الثورات» بها.

كان نابليون يخسر في مسارح القتال ويربح في الصحف الأربع. وكان جنوده ينسحبون مُدمين في الحرب، ويقرأون عن الانتصارات في الجرائد. فتوقفوا هم أيضا عن قراءتها. وما لبث بعضها أن افتقر وتوقف عن الصدور. وفي صحف سوريا، لا تزال الانتصارات تتالى، لأن الصحف الأربع تصدر من دمشق، وليس من حلب، أو إدلب. كذبت الصحف على نابليون بأوامر منه. ومن يقرأ تلك الأوامر يعرف من أين ترجمت خطب السياسيين العرب: يا جماهير شعبنا العظيم. حتى آخر زقاقي في بيروت صار يخاطب الناس هكذا.

تُلقى هذه الألقاب الفارغة على الشعوب، أو إليها، وهي في أسوأ محنها، وأكثرها مرارة ولوعة. ظل هتلر يتحدث عن الانتصار إلى أن وصل السوفيات إلى أمتار من قبوه المحصّن تحت رماد برلين. صدق نابليون وصدق هتلر، الجبناء الذين لم يجرؤوا على إبلاغ شعوبهم بالحقيقة. ولذلك، عثر كلاهما على نهايته في روسيا: تتشابه أخطاء الغرور وتتطابق، في الأزمنة وأحيانا في الأمكنة.

عندما انتهى نابليون، كان الجيش الفرنسي قد انتهى أيضًا. لم يبق الكثيرون لكي يخاطبهم: يا جنود فرنسا العظام، الشعب الفرنسي وأنا، نتطلع إلى بطولاتكم. عاد شاحب اللون مكسورًا كما روى ألكسندر دوماس. ولم يمد يده من نافذة العربة لكي يحيي الجماهير. فهي أيضا أغلقت نوافذ البيوت لكي تتجنب رؤية الرجل المهزوم. كانت تحت عجلات عربته صور سنين من المجد. اللوحات التي تصوره منتصرًا على ظهر فرسه. لكنه لم يعرف أين يتوقف. إلى أن صار السِلم قاسيًا، فكتب لجنوده: «في الحرب، على الأقل، تموت مرة واحدة. أما الآن..» ولم يكمل الجملة. لم يعرف كيف يضمنها أوصاف المحنة.

من المهم جدًا أن يكون للبلد أكثر من أربع صحف. لا بد من خامسة تقول الحقيقة.

المصدر: الشرق الأوسط
http://aawsat.com/home/article/355166