محمد النغيمش
محمد النغيمش
كاتب متخصص في الإدارة

العرب وعقدة من القائل

آراء

لا يكفي البعض أن تكون حجتنا دامغة، فما إن يعلم مصدر المعلومة أو الحكمة، حتى يكابر ويرفضها، متناسياً أن الحكمة ضالة المؤمن.

هؤلاء ينسون أن من سطر أروع الأمثال الشائعة، والأبيات الشعرية الخالدة، كانوا أناساً لم يخلوا من عيوب، لكنهم كسائر الخلق، لا بد أن تنطق أفواههم بكلمة حق، أو مقولة تثري النقاش، أو تدفع المتحاورين للنظر إلى الموضوع من زاوية مختلفة.

وهذا ما انتبه إليه المعهد الملكي للشؤون الدولية، الشهير باسم »تشاتام هاوس«، الواقع في قلب لندن منذ عام 1927، حيث ابتكر نظاماً جميلاً لتنظيم النقاشات المثيرة للجدل وإثرائها، وهي »قاعدة تشاتام هاوس«، التي تسمح للمشاركين بالمناظرات والنقاشات السياسية والاجتماعات الداخلية بحرية، باستخدام معلوماتهم، من دون الحاجة للكشف عن هوية أو انتماء المتحدث.

وتهدف هذه القاعدة الإنجليزية، إلى إفساح المجال للمتحاورين، بإخفاء مسمياتهم أو أسمائهم أو انتماءاتهم أو الجهة التي ينتمون إليها. وهذا المناخ الصحي من السرية، يدفع المشاركين إلى البوح بأريحية بآرائهم وأقوالهم، حتى وإن تعارضت مع توجهات أحزابهم، مثلاً. يا لها من فكرة رائدة، تحتاجها شعوبنا العربية لتفضفض عن مكنوناتها، بعيداً عن سيف الرقيب، أو من يمعنون في تصنيف الناس، وكرههم قبل أن يصغوا جيداً إليهم.

أذكر أن اسماً مستعاراً أشغلني في تويتر باسترساله في نقاش وأفكار مثمرة، فقلت له لم، لا تكشف عن اسمك، ونتحاور معاً شفاهة، بدلاً من التراشق النصي في تويتر. فاعتذر بلطافة، وقال: وظيفتي لا تسمح لي بالكشف عن اسمي. فهو ليس مخبر سري، على ما يبدو، لكنه يحمل فكراً نيراً، منعته طبيعة وظيفته من الخوض في نقاشات معينة. ربما كان قاضياً أو سفيراً أو يتبوأ موقعاً حساساً في بلاده.

هذا مثال عملي على عمق ما يحمله أفراد مجتمعنا من أفكار بناءة، كان يمكن أن تكون نواة لحلقة نقاشية مثمرة، لو أننا توقفنا عن تصنيف الناس قبل دعوتهم إلى مؤتمر أو مناظرة أو لقاء تلفزيوني مهم.

العالم الغربي، يقدر درر القول والحكم، ولذا، لا تكاد تخلو جداريات مكتبة أو مبنى أو كتاب، من مقولات الناس، حتى ممن يختلفون معهم في الرأي والعقيدة. أذكر أن زميلاً أميركياً أهداني ما اعتبره كتاباً ثميناً، غلفه كهدية، ولما فتحته وجدته مليئاً بالمقولات، كثير منها أقرب للحكمة، وليس فيها من القائل، ولا عجب، لأنهم يؤمنون بأن الحكمة ضالتهم.

وكم نحن بحاجة إلى قاعد »تشاتام هاوس« المهمة في الحوار، خصوصاً في العبارات التي لا تكون مبطنة لإثارة فتنة، أو نشر رذيلة، وزعزعة أمن البلاد والعباد. الناس من حولنا يتحفوننا بأفكار وتعليقات مذهلة، تستحق أن »تكتب بماء الذهب«.

ولن نتقدم كعرب، ما دمنا نحرص على معرفة »من القائل«، على حساب ماذا قال من درر.

المصدر: البيان