القدر بين الرحمة والانتقام

آراء

خاص لـ هات بوست:

يحدث أن يجرب السوريون أشكالاً مختلفة من الموت، مرضاً اختناقاً غرقاً برداً جوعاً قتلاً قصفاً سجناً تعذيباً، حتى تندرنا بأنه لم يعد ينقصنا سوى زلزالاً كي نجربه، وكان أن استجاب القدر.

وكما يحدث في الحالات المشابهة، حين صحونا من هول الصدمة وجدنا أنفسنا أمام كارثة، تتكشف فصولها تباعاً يوماً بعد يوم، في تركيا وسوريا معاً، أسر بأكملها قضت نحبها، أمهات ثكالى، أبناء يبحثون بين الركام عن أشلاء آباءهم، والأنكى من ذلك كله أطفال يتامى دونما معيل، ومن نجا بات مشرداً بلا مسكن يأوي إليه، وغالباً هو لم يلبث أن وجد مأوى بعد سنوات اللجوء والنزوح والتشرد حتى فقده من جديد، إضافة للاحتياجات اليومية من طعام وشراب ولباس في ظل برد قارس.

وما إن وقعت الواقعة حتى بدأت التحليلات، فرأى الغالبية العظمى من شيوخ “المسلمين” أن السبب هو كثرة الذنوب والمعاصي، مما أدى إلى غضب الله، ومن كان منهم أقل رأفة بالعباد وجد أنه ابتلاء من الله ليختبر صبر المؤمنين.

ربما كان التسليم بأن الأمر من عند الله وهو قدّر وما شاء فعل، ربما كان مريحاً للبعض، أما أن يكون الأمر انتقاماً أو لمجرد الامتحان، فسؤال بديهي يطرح نفسه هنا، ماذا فعل أولئك الناس البائسين لكي ينالوا ما نالوه إذا فهمنا أنه جزاء لهم على أعمالهم؟ أي شر ارتكبوه يستحق هذا العقاب؟ هل يستطيع طفل في التاسعة أو العاشرة فقد أهله جميعهم أن يستوعب هذا الكلام؟ أي كره وحقد سيتغلغل إلى نفسه إذا كان الله الذي نعبده ينتقم منا بهذه الطريقة؟ وأي امتحان هذا؟

أستغفر الله العظيم على سوء الظن به حاشاه، فالله الذي أعرفه خالق السموات والأرض عظيم رؤوف رحيم، رحمته وسعت كل شيء، لا يتلذذ بعذاب عباده، وهو القائل {لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وسيكون عوناً لذاك الطفل الذي وجد نفسه بلا أحد من عائلته فقال: “لي الله”.

من أحدث الزلزال إذاً؟

الزلزال قدر، من قوانين الوجود، كتاب له عناصره {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحديد 22)، ويتحقق إذا اكتملت أسبابه، ولا يمكن اليوم التنبؤ بحدوثه، لكن يستطيع العلماء تحديد الفوالق الزلزالية وأي صفائح قابلة للتحرك، واليوم يمكن لنظم البناء وضع الشروط الملائمة لمقاومة الزلزال، وهذا ما يحصل في المدن المتطورة، وما حصل مع الأبنية المتقنة االتي لم تتأثر بما حصل، كالمسرح الروماني في مدينة جبلة حيث بقي صامداً رغم عمره الذي يقارب 1800 عام، وربما في المستقبل سيأتي يوم يكتشف فيه العلم أسباب تحرك القشرة الأرضية والسيطرة عليها وسيندهش الناس حينها كيف أن الزلازل كانت تحصد الأنفس بالجملة وتأتي على الأخضر واليابس.

ورغم أننا لا نلم بآلية عمل العدالة الإلهية، لكن لطف رب العالمين تجلى في نجاة أحد دون آخر، في إنقاذ رضيع بقي لأيام تحت الأنقاض، ثم أخرج سالماً معافى، في اكتشاف رجل أن أبنائه وأحفاده على قيد الحياة، وهو سبحانه وتعالى أخبرنا أن الحياة الدنيا صعود ونزول، يمر فيها على الناس أياماً صعبة تحتاج للصبر {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (البقرة 155) دونما تهديد ووعيد، إنما قوانين الوجود التي وضعها سبحانه تحتم ذلك، والإنسان أمام تحدي مواجهة الصعاب وتطويعها بحيث يحقق حياة أفضل.

واليوم بعد أن انتهت عمليات الإنقاذ، نحن أمام آلاف الأطفال الأيتام المحتاجين لرعاية على المدى الطويل، لا بتأمين طعام وشراب فقط، إنما رعاية أسرية تعوضهم عما فقدوه، تنظم شؤونهم، سواء عن طريق إنشاء مؤسسات مختصة تضمن لهم الحصول على الحد الأدنى من حقوقهم صحياً وتعليمياً، أو فتح باب التبني، بأشكاله المتعددة ومسمياته المختلفة، كفالة أو رعاية أو ضم، دون اللجوء إلى الذرائع المعروفة من أن الإسلام حرم التبني منعاً لاختلاط الأنساب، فالأطفال معروفو النسب، ويمكن للقوانين تنظيم الأمر، ولا نعلم ربما ينال الطفل لدى أسرة غريبة عنه تقدم له حياة كريمة وتعليم جيد، أفضل مما سيناله في دار أيتام وكّل عليها موظفون مقهورون يحملون من الأعباء ما تجعل الطفل عرضة لتحمل مخزون إضافي من البؤس.

أما الخوف على الطفل “المسلم” أن يتربى لدى عائلة غير مسلمة، فالإسلام هو دين الإنسانية، والطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، لن يخطئه من أراد.

لا نملك أمام هول المصيبة إلا أن ندعو الله كما دعاه أيوب {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فقد مسنا الضر الذي مس أهلنا، ونتطلع إلى رحمة منه تتلطف بخلقه، وتواسي أهالي الضحايا وتنزل السكينة على قلوبهم، أما نحن فعلينا العمل بكل ما أوتينا من قوة على تقديم المساعدة، بأي شكل نستطيعه.