المكنسة وما بعدها

آراء

كتب مالك بن نبي يوماً: نشأت وأنا أرى جدتي وأمي تكنسان الأرض، وتشكيان من ألم الظهر بسبب الانحناء. لم تفكر إحداهما في إضافة عصا إلى تلك المكنسة الصغيرة. ثم جاء الفرنسيون بالمكنسة الطويلة، فارتاحت أمي حين باتت قادرة على كنس بيتها وهي مستقيمة.

قد تبدو المكنسة شيئاً تافهاً أو هامشياً، لكن موضع اهتمامنا ليس المكنسة بذاتها، بل محتوى العلاقة بين هذا الشيء البسيط وصاحبه. هذا ينطبق أيضاً على السيارة والمصباح الكهربائي وموقد الغاز وجهاز التبريد والدراجة، وكل شيء في حياتنا. نستعرض هذه الأشياء ثم نسائل أنفسنا: لماذا لم نستطع الإسهام في حركة الصناعة والتقنية التي يعج بها العالم الحديث، حتى على مستوى إضافة عصا إلى المكنسة، فضلاً عما فوقها.

ركز مالك بن نبي جل اهتمامه على ما يسميه عالم الأفكار، أي الذهنية التي توجه رؤيتنا لأنفسنا ولما حولنا من بشر وأشياء، وهو يعتقد أن تقدم المجتمعات وتأخرها ناتج مباشر لتلك الذهنية. أمهاتنا اللاتي كابدن الآلام مع المكانس القديمة، لم تنظر إحداهن في الفكرة الكامنة خلف هذا الشيء. المكنسة تشكيل مادي، لكنها قبل ذلك فكرة. من ينظر إليها على هذا النحو قد يتقدم خطوة في اتجاه تفكيك الفكرة، ثم إعادة تركيبها على نحو أرقى من صورتها الأولى. أما الذي ينشغل بالشيء ذاته، باستهلاكه واستعماله، فسيبقى مجرد زبون في السوق. لم نفكر سابقاً في المكنسة، لذلك ما زلنا نشتريها جاهزة من الخارج. لم نفكر أيضاً في الفكرة الكامنة وراء السيارة والهاتف والحاسب، ولذا سنواصل التعامل معها كمستهلكين، ومع صانعيها كزبائن دائمين.

لعل بيننا شباناً نابهين التفتوا إلى هذه المسألة، ولعل بعضهم أراد العبور من «الشيء» الذي يستعمله إلى «الفكرة» التي وراءه. ربما كانوا قادرين على ذلك. من المؤكد أن بعضهم ذكي بما يكفي لإبداع شيء جديد، لكنه على الأغلب لن يأتي بجديد، لأن محيطــــــــه الاجتماعي سيقنعه بأن الأمر لا يستحق.

لو كان الجو مشجعاً، لكنا نصنع اليوم كثيراً مما نحتاج، تماماً مثلما فعل الآخرون الذين سبقونا في هذا المضمار.

ثمة أوهام شائعة بيننا، نتداولها كمسلّمات، وهي مسؤولة – إلى حدّ ما – عن كبح محاولات المبدعين وتثبيطهم. أوهام من قبيل أننا عاجزون عن الإبداع لأن تعليمنا ضعيف قياساً لما يملكه الغرب، وأوهام من نوع أننا لا نملك المال الكافي، وكل شيء يحتاج إلى مال، وأوهام مثل أن الغرب لن يسمح لنا بالاستغناء عنه.

ذهنية الكسل والاستحالة التي تحول هذه الأوهام إلى مسلمات هي السر الذي جعلنا لا نستثمر التعليم، رغم مرور قرن على بدايته، وحصول مئات الآلاف على تعليم جامعي، وانفتاح المجتمع على كل جديد في العلم والتقنية.

الإبداع العلمي والصناعة رهن بتوفر ذهنية مختلفة، ذهنية معاندة للمألوف، جريئة على اختراق جدار المسلّمات والأوهام التي تبرر التأخر بقلة العلم أو المال أو هيمنة الأجانب.

لقد قيل الكثير عن التعليم وتطويره. والذي أرى أن التطوير الذي نحتاجه هو ذلك الذي يسهم في تكوين ذهنية ناقدة متمردة قادرة على التشكيك في المسلّمات. قيل الكثير أيضاً عن تطوير الإعلام والمنابر. والحق أن التطوير الذي نحتاجه اليوم هو ذلك الذي يسهم في إقناع أجيالنا الجديدة بأن جوهر الفضيلة يكمن في المغامرة وكشف الغيب واقتحام المجهول.

المصدر: الشرق الأوسط