الهوية مفتاح نجاح التجربة اليابانية

منوعات

الاعتزاز بالهوية ومنظومة التقاليد المجتمعية القائمة على احترام الآخر وتقدير الخبرات في كل المجالات كانت من أهم الأسس، التي رسمت ملامح ناجحة للتجربة اليابانية في كل المجالات وباعثاً على النمو والازدهار، وهذا ما أكده بيتر دراكر الخبير الاقتصادي ومؤسس علم الإدارة الحديث بقوله، إن مصلحي اليابان أقاموا منذ 100 عام مضت عن وعي بالثقافة الجديدة المصطبغة بالسلوك الغربي الجديد على قيم يابانية تقليدية وثقافة يابانية تقليدية، فالشركة والجامعة اليابانية الحديثة غربية تماماً من حيث شكلها، ولكنها استخدمت كونها حاضنات للثقافة اليابانية التقليدية غير الغربية.

فلسفة الوطن

ويكمن سر تفوق نجاح التجربة اليابانية في فلسفة التحدي والإصرار والصبر والمثابرة، إلى جانب التمسك بنسيج الثقافة الشعبية المحلية وحضارتها ذات الجذور العميقة، التي ساعدت المجتمع الياباني على تشكيل وصنع الإنسان الياباني ليتحكم في ذاته من أجل بلاده، وهي فلسفة إنسانية قائمة على التوارث من ميراث حضاري عميق ممتد آلاف السنين، يُصنع منه سياج أخلاقي من القيم والمبادئ والمثل العليا التي تدفع إلى الولاء والانتماء والإخلاص الكامل والوفاء العظيم والطاعة المطلقة والمشاركة المخلصة والتفاني في أداء الواجب.

وخاض اليابانيون تجربتهم التنموية الشاملة متسلحين بروح الانتماء والاعتزاز للوطن أولاً وأخيراً، وتقديم مصلحة الجماعة على الأفراد كونها ركيزة محورية للنظر في كل الملفات والسياسات ذات الصلة بالنظم الحكومية، التي تراعي سيادة الوطن وأمان الشعب وانفتاحه على كل الثقافات لرصد مؤشرات المعرفة وحصادها داخلياً وتطويرها، ثم الاستفادة منها، وتعميمها على كل شعوب الأرض كونها تجربة ناجحة صنعت في اليابان.

صناعة المستقبل

ومن جانب آخر قامت التجربة اليابانية على ترسيخ مبدأ التعاون ما بين الجميع من أجل صناعة المستقبل برؤية محلية خالصة، قادر على مواجهة كل التحولات الاقتصادية والاجتماعية، وذلك من خلال رفع سقف الابتكار والإبداع وتحفيز الخيال كونه نقطة انطلاق لتحقيق المستحيل، بهدف التحسين المستمر في أساليب الإنتاج ونمط الإدارة والحوكمة، وبالتالي القضاء على المهدر غير المستغل، والقضاء التام على الضائع من الوقت والجهد والتكلفة، بهدف رفع معدلات الإنتاج لأعلى معدلاته مع إثراء فكرة التنوع في شتى الفروع والقطاعات ذات الصلة أيضاً بالخدمات كالصحة والتعليم والاتصالات، لتحقيق الاكتفاء الذاتي المتوافق مع الإشباع التام لكل احتياجات ورغبات العملاء والمستهلكين بالتوازي مع عاداتهم وأنماط الشرائية.

واجبات مهنية

وتفضل المؤسسات اليابانية عدم التخصص الدقيق في المهنة، فالموظف والعامل يمارس أكثر من مهنة وينتقل من قسم الى آخر، وذلك للاستفادة به في خدمة جميع أقسام المنظمة التي يعمل بها. وهذا التنقل من قسم لآخر يكسب العامل تجربة ثرية، الأمر الذي يجعله معداً للترقية، التي لا تتم بشكل سريع كما هو متوقع، بل بعد مضي 10 سنوات في أقل تقدير، وهذه الإجراءات يتم تطبيقها على جميع العاملين في كل القطاعات، لشحن طاقة الانضباط الذاتي في العمل دون توجيه أو مراقبة إدارية، فالموظف الياباني حقق اقل نسبة تغيب عن العمل عالمياً، وعادة ما يلتزم بعمل إضافي تطوعي من دون أجر، حيث بات الإحسان في العمل جزءاً من مقومات الشخصية والنابعة من ضميره ومن ثقافته وتربيته، فالعمل لديهم مزيد من العبادة ومزيد من المتعة.

تعديلات

ومن جانب آخر تعتمد المؤسسات اليابانية على القرار الجماعي المشترك سواء كان يتعلق بإحداث تعديل في عمليات الإنتاج أو بتأسيس مصنع جديد، ويبذلون قصارى جهدهم في التركيز على الأهداف العامة للمؤسسة، للبحث عن الحلول الأكثر حظاً في النجاح، وهذا يكون عن طريق البحث عن المعلومة، التي تشكل الحجر الأساس في هذه العملية.

منظومة الولاء

وكانت الأجهزة الحكومية ولا تزال تمارس دوراً أساسياً في دعم الشركات اليابانية وتمارس دوراً كبيراً في توجيه الشركات بطريقة غير مباشرة، وذلك لأهداف قومية كالاكتفاء الذاتي ودفع التقدم التقني الياباني، كما أن الانضباط والولاء اللذين يميزان الشركات، اليابانية يسهمان في زيادة تأثير الدور الحكومي من أجل خلق الموازنة بين روح ومسؤولية هذه الشركات. ومما يلاحظ على الشركات اليابانية أنها أكثر تقبلاً لدور الحكومة التوجيهي، الذي تعتبره دوراً إيجابياً وضرورياً في أكثر الأحيان، وبالتالي استطاعت اليابان أن تكّون من الأخلاق التقليدية كالطاعة والاحترام والمودة منظومة فاعلة ومتكاملة الجوانب، منظومة تجمع ما بين الأصالة التاريخية المستمدة من الحضارات، وما بين المعاصرة الحديثة.

العلوم غربية والروح يابانية

عرفت اليابان سلسلة طويلة من الاقتباسات النظرية عن مقولات الثقافة الغربية، التي كادت تعرضها لمخاطر التغريب، عبر تبني مفاهيم الهوية المنفتحة السائدة في الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية، وبرزت أحياناً تيارات يابانية تدعو إلى التخلي عن التراث الياباني التقليدي بكامل رموزه أي اللغة والآداب ونظام التعليم ونمط الحياة الاجتماعية وغيرها، ودعا بعض المفكرين اليابانيين صراحة إلى تبني الحرف اللاتيني، وأشكال السكن والطعام واللباس السائدة في الغرب

سطوة التقاليد

ودعت السياسة الإصلاحية للتمييز بين تكنولوجيا وعلوم الغرب من جهة، وفلسفته وآدابه وتقاليده وثقافاته من جهة أخرى، وذلك خلال في الفترة الأولى من تاريخ اليابان المعاصر في عهد الإمبراطور ميجي بشعار: «العلوم غربية أما الروح فيابانية»، وتجلت نتائجه العملية بالانفتاح الكامل على العلوم والتكنولوجيا الغربية، مع التمسك بأسس وتقاليد الثقافة اليابانية الموروثة، حيث شهدت اليابان مخاضاً عسيراً في تحولها من دولة فيودالية، التي تحكمها عادات وتقاليد الساموراي، وهي القوى العسكرية الوحيدة التي كانت تمتلك السلاح في المجتمع الياباني التقليدي، إلى دولة مركزية عصرية يحكمها إمبراطور ويحميها جيش قوي، ولديها شرائح واسعة من كبار التجار والصناعيين، وطبقة وسطى عريضة، وأعداد كبيرة من العمال والفلاحين، ومن هذا المنطلق تبلورت الهوية اليابانية عبر مقولات سياسية ذات خصوصية واضحة المعالم، واستعادت الدراسات اليابانية على الدوام مقولات ثابتة تعبر عن تلك الهوية، وفق نظرية «الكوكوتاي»، ومقولات القومية اليابانية المتشددة التي كانت ترفض إعطاء الجنسية اليابانية لأي أجنبي من جهة أخرى.

واعتبر بعض اليابانيون في بدايات التشييد والبناء أن الحداثة تراث غربي محض لا تترسخ في دولة حديثة خارج أصولها الغربية إلا إذا تخلت تلك الدولة بالكامل عن موروثها القديم، واعتمدت الأشكال الغربية بحذافيرها، وفي مختلف المجالات، فتعرضت محاولات التغريب لانتقادات شديدة من جانب القوى الأساسية الفاعلة في المجتمع الياباني، حيث آمنت بأن التحديث شيء والتغريب شيء آخر، وأن بإمكان اليابان الاستفادة من جميع العلوم العصرية مع الاحتفاظ بكامل تراثها اللغوي، والثقافي، والفني إضافة إلى عاداتها وتقاليدها الموروثة، فانتهت عملية الاقتباس عن الغرب بتبني الكثير من نتاجه التكنولوجي والقليل من أنماطه السلوكية والاجتماعية والسياسية والثقافية والفنية.

جاذبية الأصالة

وحدها اليابان أسست لهوية جديدة بين الدول الآسيوية بعد إصلاحات الإمبراطور «مايجي» في النصف الثاني من القرن الـ 19، فحظيت بجاذبية كبيرة في الدول الآسيوية أولاً؛ لأنها أعطت الهوية الآسيوية بُعْداً مستقبلياً بعد أن حاربت الغرب بعلومه العصرية وتقنياته المتطورة، فتعلمت منه الكثير كونها تلميذاً وضع نصب عينيه أن يتجاوز معلمه حيثما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وفرضت هويتها الآسيوية بسمات معاصرة على المستوى الكوني دون أن تتنكر لهويتها الآسيوية الموروثة، واستفادت الصين والهند ودول النمور الآسيوية من مقولة الخصوصية اليابانية لتبني لها تجارب تحديث خاصة بها على قاعدة إقامة التوازن بين الأصالة والمعاصرة، التي أسست لها اليابان في نهضتها الأولى، ولم تتنكر لها في نهضتها الثانية المستمرة منذ أواسط القرن الـ 20.

235

يقضي التلاميذ في اليابان حوالي 235 دقيقة لكل أسبوع في حصص الرياضيات الاعتيادية ويبلغ ذلك حوالي 218 دقيقة بالنسبة إلى الدول الأخرى، ولكنهم يقضون وقتاً أقل في حصص اللغة والعلوم، حوالي 205 و165 دقيقة بالترتيب لكل أسبوع، ويبلغ ذلك حوالي 215 و200 دقيقة بالترتيب لكل أسبوع في الدول الأخرى، كما تحضر نسبة كبيرة من التلاميذ الورش العملية بعد اليوم الدراسي والذي يمكنهم تعلّم المزيد من الأشياء فيها فضلاً عما يتعلمونه في الحصص الدراسية، والبعض يقوم بتلك الورش العملية في المنزل أو في مكان آخر.

بحث علمي

يكمن سر التفوق التقني، والتميز الصناعي الياباني، في الاستراتيجية البحثية اليابانية، التي اعتبرت البحث والتطوير الركيزة الأساس في الانطلاق نحو الريادة منذ مراحل مبكرة في تاريخ الحضارة اليابانية، وتحقيقاً لتلك الرؤية الطموحة، وضعت خطة عشرينية (1970م – 1990م)، لتطوير جامعاتها ومراكزها البحثية، حيث تعد البلد الرائد في البحث العلمي، حيث يتقاسم قرابة 700 ألف باحث ميزانية البحث العلمي في اليابان وقدرها 130 مليار دولار، أي ثالث أكبر ميزانية بحث علمي في العالم، وتمتلك 400 ألف روبوت من بين مجموع الروبوتات الموجودة في العالم، والبالغ عددها 720 ألف روبوت.

2020

باشرت العديد من القطاعات المختلفة في اليابان تشغيل روبوتات لأداء مهام وظيفية بدلاً من البشر في ظل تراجع أعداد القوى العاملة بانخفاض معدل المواليد مقابل تنامي أعداد من اقتربوا من سن التقاعد، وبدأ تشغيل الروبوتات في عدد من القطاعات منها المحال التجارية والفنادق والمصارف، وحاليا يشغل مصرف طوكيو-ميتسوبيشي الروبوت «نوا»، الذي يتحدث 19 لغة مختلفة، بمهام خدمة العملاء للرد على استفساراتهم البسيطة، وقد يثبت «نوا» جدواه خلال استضافة الدولة الآسيوية لأولمبياد طوكيو في 2020، في الوقت الذي يتزايد الطلب في اليابان على الوظائف التي تتطلب مهارة عالية أو متوسطة.

صناعة سينما

تاريخ السينما اليابانية يمتد إلى أكثر من مئة سنة، وتملك اليابان أحد أقدم وأكبر صناعات السينما في العالم، حيث كانت في المرتبة الرابعة من حيث عدد الأفلام الطويلة، ويبدأ تاريخ صناعة الأفلام في اليابان بالعصر الصامت، حيث ظهر اختراع «الكينتو سكوب» لأول مرة في اليابان 1896، كما أن الأنمي هو أحد أشهر أنواع الأفلام اليابانية، وبدأت شعبيته عام 2000، وأول فيلم أنمي تم إصداره، كان «المخطوفة»، والذي حقق نجاحاً كبيراً في شباك التذاكر، وفاز بعدة جوائز، منها «الأوسكار» لأفضل فيلم رسوم متحركة.

المناخ الصحي الذي خيم على أجواء السينما اليابانية بداية التسعينات، وربما قبلها قليلاً، ساعد على ظهور أجيال جديدة من المخرجين الموهوبين لصنع سينما تعبر عن واقعهم وهمومهم، بعيداً عن أي شروط تمس إبداعهم الفكري والفني، فاعتمدوا على ميزانيات منخفضة، وتعاملوا مع ممثلين غير محترفين، طرحوا موضوعات كان من الصعب طرحها في أوقات سابقة، صاغوها في أساليب سينمائية تجريبية ومبتكرة.

المصدر: البيان