بالعقل وحده يحيا الإنسان

آراء

من عادات البشر مديح الماضي وذم الحاضر والشك في المستقبل. لعل هذا الموقف ناشئ من رغبة دفينة للعودة للعمر الذي مضى. يظن الشاب أن أيام المراهقة والطفولة أفضل من أيامه التي يعيشها. يتأسف الكهل على الشباب ويتباكى المسن على كل الأيام الماضية. أزمة الإنسان تعود إلى تناقض مسيرة حياته الشخصية مع تطور حياة البشر كمجموع. الفرد يكبر ويشيخ ويموت والمجتمع ينمو ويتغير ويتقدم مهما صادف من صعوبات وعثرات لكن القليل من حياة الشعوب الماضية يمكن الأسف عليها وتفضيلها على الحاضر. ما يدفع الناس إلى البكاء على الماضي هو خليط من الحنين وانتقائية المؤرخين.

الإنسان لم يتقدم في مسألة التكنولوجيا والحياة المادية فحسب ولكنه تقدم أكثر في جودة الحياة والحقوق والسعادة. قبل ثلاث مئة عام على سبيل المثال لم يسمع أحد بكلمة الاتجار بالبشر. كانت التجارة بالبشر من أفضل أنواع التجارة وأكثرها ربحية وتقرها جميع دساتير الأمم. في تلك الحقب لم يسمع أحد بحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الحيوان وحماية الطبيعة والحياة الفطرية.

المسألة المادية لا تنفصل عن المسائل الإنسانية الأخرى. قارن بين حياة هارون الرشيد وحياة موظف من الطبقة الوسطى في أميركا أو كندا. ستجد أن كل شيء يسير في صالح الموظف الصغير. إذا تخلينا عن الأساطير والتخيلات التي نبنيها بخيالاتنا عندما نسمع بقصور الملوك والأمراء عبر التاريخ سنكتشف أن منزل هذا الموظف أفضل من قصر الرشيد بمئات المرات. مكيف حار بارد. الحمامات نظيفة وصحية. ماء. كهرباء. تلفزيون تلفون نت.. الخ. هذه التسهيلات التي نراها بدهية في حياتنا لا يتمتع بها هارون الرشيد ولم يكن يتخيلها. التهويل في مسألة الجواري والخدم وزخارف السينمائيين تعطي انطباعا بعظمة الحياة التي كان يعيشها. حتى على هذا المستوى من الرفاهية بالتأمل البسيط ستكتشف أن الموظف الصغير أفضل أخلاقيا من هارون الرشيد وغيره من عظماء التاريخ. هذا الموظف يشمئز من فكرة اقتناء الجواري ويحتج على فكرة غزو الشعوب وربما يتبرع من حر ماله لبشر يختلفون عنه في اللون والدين والمواطنة ويبعدون عن سكناه آلاف الكيلومترات.

ما الذي جعل الإنسان يقفز هذه القفزة النوعية في مدة قصيرة جداً مقارنة بعمره الطويل على سطح الأرض. عندما اكتشف عقله عقله. في الماضي كانت أسئلة العقل يجاب عليها بالأسطورة. كانت الأساطير ملاذاً يهرب إليها الإنسان عندما تحيره تقلبات الطبيعة. لكن المجابهة بين مصالح الناس وتسلط الكهنة انطلقت شرارة تمرد العقل. فطرحت الأسئلة التي لم يجرؤ على طرحها أحد من قبل فاكتشف العقل نفسه.

المصدر: الرياض