تركي الدخيل
تركي الدخيل
سفير خادم الحرمين الشريفين في دولة الإمارات العربية المتحدة

بعض تاريخ المال… بين قبحٍ وجمال!

آراء

«المال كلّ شيءٍ. ما التبّع والأعوان والصديق والحشم إلا للمال. ولا يُظهر المروءة إلا المال. ولا الرأي ولا القوة إلا بالمال. ومن لا إخوانَ له فلا أهل له، ومن لا أولاد له فلا ذِكر له، ومن لا عقل له فلا دنيا له ولا آخرة، ومن لا مال له فلا شيء له». نصٌ جريءٌ لعبد الله بن المقفع، في سياقه معظم تعريفات المال.

قال سفيان الثوري: «سمّي المال، لأنه يميل القلوب»، وهو رأي إمام اللغة ابن فارس، واعتبر الفقيه الحنفي، ابن عابدين، المال «كلّ ما يميل إليه الطبع».

ولأنّ المال صلب الحياة، وقوام شأن البشر، اعتبر الإسلام حفظ المال، من الضروريات الخمس؛ التي هي سبب التشريع؛ بحسب الشاطبي؛ القائل: «هذه الضروريات مراعاة في كلّ ملّة».

ولمنزلة المال، وحرمة التعدي عليه، اشْتقّت اللهجات المحلية، فكرة تعزيز الملكية الفردية للمال، وأضافتها لمعانٍ أخرى.

في كثير من اللهجات المحكية العربية، قولهم: «مالي ومالك»، والمقصد؛ لا حق لك بالتدخل بمالي، كما لا يحق لي مساس مالك. غير أن المعنى تحول من المال المعروف، وهو ما يملكه الإنسان من الأشياء، إلى معنى آخر؛ إذ لا علاقة لي بك، لا أتدخل بشؤونك. كأنما أصبح الشأن الشخصي، مالاً، فانفرد كلّ واحدٍ بما يملك، مانعاً الآخر من الاعتداء على ماله؛ وهو هنا؛ خصوصياته وشؤونه.

في العامية، عند بعض العرب، سؤالهم استنكاراً: «إنتا مالك؟!». بمعنى؛ ما الذي جعلك تتطفل في أمر ليس لك، أو؛ لم تتصدر لشأنٍ ليس من أموالك التي يمكنك التصرف بها؟!

وعند لهجات محلية أخرى: «مالكْ؟!»، أي: ما بك؟ أو ماذا أصابك؟ ويخاطب به من كان على غير طبعه.

نهاية السبعينات، غنّى الفنان السعودي محمد عبده، أغنية كانت سبب شهرته عربياً، كتبها إبراهيم خفاجي، ولحّنها سامي إحسان، وفيها يخاطب المحب محبوبته:

«مالي ومال الناس؟ ومالك ومال الناس؟ أنا لمّا حبيتك… ما خدت رأي الناس». والمعنى؛ ما شأني وشأن الناس؟ وما شأنك وشأنهم، ليتدخلوا في محبتنا؛ ملكنا، مثل مالنا؟ لم يتطفل الناس على مالنا، وخصوصياتنا، أحببتك دون شوراهم؟! و«خدت»، بالعامية الحجازية؛ أخذت. وأبدلت الذال دالاً للتخفيف، وهي لهجة معظم العرب، إلا العراق والخليج واليمن.

لقد حفل الشعر العربي بالمال، منذ الجاهلية إلى اليوم. وعبّر به في العصور المتقدمة عن الإبل، أو الخيل، أو الماشية بعامة. أما عند أهل القرى، والمدن، فقصد به الزرع، وبخاصة النخيل، أو الأرض. ولم يكن مراد الشعراء التعبير بالمال عن النقود، إلا متأخراً، بعد ظهور النقود، ولما جاءت الأوراق المالية، أصبحت هي المال في الأغلب.

تحدث الشعر عن المال في الفخر، والمدح، والزهو بالكرم.

يقول زهير بن أبي سلمى:

أخي ثقة لا تتلف الخمر ماله

ولكنّه قد يهلك المال نائله

تراه إذا ما جئته مـتـهـلّـــلاً

كأنك تعطيه الذي أنت سائلهْ

فبسبب مكارم أخلاقه، وثقته وخيره، ولأنه جواد سخي، فهو يحسن استخدام المال، ولا يفنيه في الدنايا، حتى ربما عصف العطاء بماله. وقد بلغ من فرحه بالبذل أن وجهه يصبح بشوشاً بالكرم، فكأن المعطي الواهب. هو من يطلبه العون! وهما من أجمل الشعر، يقول الثعالبي عن البيت الأخير: «وقع الإجماع على أنه أمدح بيتٍ قالته العرب».

وكعادة المتنبي، يأتيك بالمعنى اللافت من حيث لا تحتسب، يقول مادحاً المبحر في بحور العطاء:

يتداوى منْ كثْرة المال بالْإقـْ

ـلال جوداً كأنّ مالاً سقام

سئل الفرزدق؛ ما أفخر شعر العرب؟ فأجاب؛ قول امرئ القيس؛

فلو أنّ ما أسْعى لأدْنى معيشة

كفاني ولم أطلبْ قليلٌ من المال

ولكنّما أسْعى لمجدٍ مؤثّلٍ

وقد يدْرك المجْد المؤثّل أمْثالي

والمؤثّل؛ العريق، الأصيل، الشريف.

وقد شرح حاتم الطائي، كبير الكرماء، فلسفته في المال، مخاطباً زوجته؛ ماوية، التي ناداها (أماوي)، ترخيماً، بقوله…

أماوي ما يغْني الثّراء عن الفتى

إذا حشْرجتْ يوماً وضاق بها الصّدْر

أماوي إنّ المال غادٍ ورائحٌ

ويبقى من المال الأحاديث والذكْر

واحتل المال حيزاً كبيراً من أمثال العرب، وغيرهم، فمنه: «المال ما أفاد الرجال»، وهو «مادّة الشهوات»، والمال «يبدي جواهر الرجال وخلائقها»، بقول علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.

ومن أمثال غانا: «المال كالخادم، إن أسأت معاملته فرّ منك». وفي معظم البلاد العربية، مثلٌ شعبي يقول: «المال السايب يعلّم السرقة». والمقصود؛ المال المهمل، أو ما لا رقابة عليه. ومعلوم أن حدّ السرقة في الشريعة القطع، لكّن هذه العقوبة لا تقام على من أخذ مالاً من غير حرز. والحرْز؛ موضع حفظ أموال الناس.

يقول أكثم بن صيفي: «العيال سوس المال»، والسوس حشرة إذا أصابت الطعام أو الأسنان أو الأخشاب، نخرتها، فبليت، وتفتت.

ورغم التحذير من فتنة المال، فإنه خيرٌ، بدلالة الآية الكريمة: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أحدَكم الموتُ إِنْ تركَ خيراً الوصيةُ للوالدينِ والأقربينَ»، فوصف ما يخلّفه الميت من مالٍ بالخير.

نقل نافع، مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب، أن المختار بن أبي عبيد، القائد العسكري، وحاكم الكوفة، كان يرسل المال لابن عمر، فيقْبله، ويقول: «لا أسأل أحداً شيئاً، ولا أرد ما رزقني الله».

وكثرة المال، ليست شراً بالضرورة، فقد قالت أم سليم، والدة أنس بن مالك، كما في الصحيحين؛ يا رسول الله، أنسٌ خادمك؛ ادع الله له، فقال: «اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته».

وللمتلمّس، الشاعر الجاهلي، بيتٌ شهير، ذهب مثلاً، كما لو كان أصل إدارة الأموال:

قليل المال تصْلحه فيبْقى ولا يبقى الكثير مع الفساد

المصدر: الشرق الاوسط