بينالي فينيسيا… بين موضوعات الهجرة والشعبوية

منوعات

البندقية (إيطاليا): شوقي الريّس

يأبى الشتاء أن يغادر «عروسة البحار» التي تحتفل هذه الأيام بالدورة الثامنة والخمسين لمعرضها الفني «بينالي فينيسيا» في أجواء من الصقيع والرطوبة تضفي مزيداً من الكآبة المنسدلة عليها طوال العام وتقصي الربيع الذي ما زالت تتوق إلى حدوثه بلهفة وشغف.

«بينالي فينيسيا» أو «البندقية الفني» هذه السنة يفتح أبوابه على اضطرابات الأزمنة الراهنة؛ من تغيّر المناخ وتداعياته، إلى العنصريّة التي عادت لتستقرّ بقوة في المجتمعات الغربية، مروراً بموجات الهجرة التي تعيد تشكيل المشهد الإنساني والسياسي في بلدان كثيرة.

على مدخل الأحواض القديمة لبناء السفن في ميناء المدينة التي كانت أغنى الجمهوريات الأوروبية، وضع الفنّان السويسري – الآيسلندي كريستوف بوكيل عمله اللافت الذي يذكّر بمأساة المهاجرين الذين منذ سنوات يعبرون مياه البحر المتوسط ويقضي الآلاف منهم على طريق الهرب من الفقر والحروب والاضطهاد. ويقوم هذه العمل على حطام مركب خشبي غرق في عام 2015 على مقربة من ساحل جزيرة صقلية عندما كان مبحراً من ليبيا إلى إيطاليا وعلى متنه 800 مهاجر لم يسلم منهم سوى 27.

تسعون بلداً يتنافس مبدعوها في هذه الدورة، بينها أربعة تشارك للمرة الأولى: غانا ومدغشقر وماليزيا وباكستان… يطرحون أفكاراً وحلولاً وتصوّرات لهذا العصر المضطرب الذي نعيش فيه اليوم، تجاوباً مع الشعار الذي أطلقه رالف روغوف، مدير غاليري «هايورد» الشهير في لندن والمشرف على بينالي هذا العام: «عسى أن تعيش أزمنة شيّقة»، ويقال إن حكماء الصين كانوا يرددونه في زمن الكوارث والأزمات.

المواضيع التي يتناولها الفنّانون المشاركون في هذا المعرض تبدو أقرب إلى عناوين الصحف اليومية أكثر من الأعمال التي عادة تزيّن جدران المتاحف. المكسيكية تيريزا مارغويّس تستحضر جدار الفصل الأميركي عند «سيوداد خواريز»، والليتواني آوغوستاس سيرابيناس يعرّي شوارع المدن الأميركية الكبرى التي تتسرّب العنصرية إلى ثناياها المتورّمة بالحقد والكراهية.

رهان روغوف على تجاوز الفن المتأثر بالبعد السياسي – الاجتماعي الكلاسيكي واضح من خلال الأفكار المعاصرة التي حشدها في الأعمال المعروضة والتقنيّات الحديثة المستخدمة مثل التكنولوجيا الرقمية وتقنيّة الفيديو التي أصبحت الوسيلة المفضّلة للتعبير في الأعمال الفنيّة المعروضة. كما ساهم في ذلك أيضاً اختيار الفنّانين، المجهولين من الجمهور العريض في غالبيتهم، والذين ينتمي معظمهم إلى التيّارات التعبيرية الجديدة، إلى جانب حفنة ضئيلة من الأسماء المعروفة التي تفسح أعمالها مجالاً للتأمل الهادئ في خضمّ معمعة من المعروضات الغريبة التي تستعصي على التحليل والقراءة المعقولة.

تبدو دورة البينالي هذا العام، في مجملها، تذكيراً بأن سمة الأزمنة التي نعيشها اليوم هي حدوث ما ليس متوقعاً حدوثه؛ من انتصارات ترمب وشعبيته، إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مروراً بازدهار التيّارات الفاشيّة الجديدة.

أكثر من نصف مليون زائر يتوقّع أن يتوافدوا على المعرض الذي يستمرّ حتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، ولهم كلمة تأخذها اللجنة التحكيمية في الاعتبار عندما تقرّر اسم الفائز بجائزة «الأسد الذهبي» التي يرجّح البعض، منذ الآن، أن المنافسة عليها محصورة بين نحّاتتيْن: البريطانية كاتي ويلكس، والفرنسية لور بروفوست.

قبل مغادرة المعرض من المخرج الذي ترتفع فوقه منحوتة ضخمة من الأيادي البيضاء المتشابكة بعنوان: «نبني الجسور» للإيطالي لورينزو كوين عند باب الأحواض القديمة، نقترح وقفة أمام عمل الألمانية هيتو ستيرل بعنوان: «هذا هو المستقبل»، حيث بإمكان الزائر أن يتابع، عبر الفيديو، مشاهد مقلقة تحت سطح البحر لطحالب وكائنات عجيبة، التقطها المصوّر من منصّة كتلك التي يلجأ إليها سكّان البندقية عندما يرتفع منسوب المياه التي تهدد بإغراقها. عندئذ يدرك الناظر مدى التشابه الخطير بين هذه المدينة والحضارة الذاهبة إلى الغرق وأمسها أطول بكثير من غدها.

المصدر: الشرق الأوسط