تحول النشاط الاقتصادي إلى مولد للإبداع

آراء

في الوقت الحاضر يتبنى معظم دارسي التنمية مفهوم التنمية الشاملة (وتسمى أحياناً بالمستدامة) بعدما أظهرت تجربة النمو في العالم الثالث، أن التعويل على النمو الاقتصادي بصفته خياراً وحيداً للتقدم، قد زاد من حدة الانقسامات والتفاوت الطبقي، وأدى إلى اتساع الطبقات المهمشة، التي تصفها الأدبيات الماركسية بالبروليتاريا الرثة، أي الجموع الفقيرة التي لا تقيم وزناً للسياسة، لكنها في الوقت نفسه جاهزة للجري وراء كل مدعٍ ومخادع، يداعب أحلامها بمعسول الكلام والوعود الذهبية. وقد لوحظ في تجربة أميركا اللاتينية وأفريقيا، أن تلك الشرائح هي التي شكلت الداعم الشعبي الرئيسي للعسكر والتنظيمات المسلحة على حد سواء.

من الإنصاف القول إن تجارب النمو الاقتصادي المحدود، لم تفشل كلياً. لكنها أخفقت في بلوغ غاياتها الكبرى، ولا سيما القضاء على الفقر والعنف. كانت البرازيل بين أوائل الدول التي ظهرت فيها نتائج التجربة. فقد عاشت خلال ستينات القرن العشرين في بحبوحة، لكن اقتصادها ما لبث أن تعثر، وكشف عن عجز تام في التعامل مع تحديات «ما بعد الطفرة»، ولا سيما توزيع ثمرات النمو الاقتصادي، على نحو عادل في جميع أقاليم البلاد. تجربة تشيلي والأرجنتين لم تختلف كثيراً. وحسب تعبير أحد الباحثين، فإن تلك البرامج التنموية جعلت الحكومات قوية جداً، والمدن مزدهرة جداً. لكنها أيضاً جعلت عدد الفقراء كبيراً جداً.

التأمل في تجربة بلدان الشرق الأوسط، تشجع الاعتقاد بأن اتساع الطبقات المهمشة، لا يرجع إلى عوامل اقتصادية بحتة في المقام الأول. لنقل على سبيل التحفظ، إن العامل الاقتصادي كان السبب المباشر لبروز الظاهرة واتساعها. لكنا نعلم أن تحولات كهذه، تأتي تبعاً لسياسات رسمية غير متبصرة. وأشير خصوصاً إلى اتجاه عام في الدول النامية خلال معظم النصف الثاني من القرن العشرين، يشجع تمركز الدولة وهيمنة مؤسساتها على مفاصل الحياة الاجتماعية، على النحو الذي وصفه نزيه الأيوبي في كتابه «تضخيم الدولة العربية».

اتجاه الدولة للتضخم والتمركز يقيم كياناً بالغ القوة. لكنه يؤدي – بقصد أو كناتج ثانوي – إلى تفكيك المنظومات الاجتماعية التقليدية (القبيلة مثلاً) دون أن يسمح لبدائلها الحديثة (النقابات المهنية والأحزاب مثلاً) بأخذ الدور التي كانت تلعبه في استيعاب الأفراد وتسكين التوترات الاجتماعية.

ربما نطلق على هذا التحول اسم «تذرية المجتمع»، أي تفكك المنظومات الاجتماعية، وتحول الأفراد إلى ذرات منفردة، أطلقت هانا أرندت على مجموعها اسم الجماهير، أي حشود الناس التي يجمعها المكان، لكنها تفتقر إلى الروابط والتفاهمات، التي تجعل منها كتلة متفاهمة أو قادرة على العمل المشترك.

تشكل الطبقات المهمشة عائقاً جدياً لسياسات الإصلاح. فهي تميل إلى تحميل الدولة المسؤولية عن كل شيء يتعلق بحياتها، من المهد إلى اللحد، كما يقال. كما أنها كما توفر وقوداً محتملاً للفوضى والانشقاق.

استيعاب الطبقات المهمشة يحتاج إلى سياسة عامة، تستهدف – بشكل واعٍ – توسيع الإطارات القانونية التي تسمح لكل فرد بالمشاركة في التفكير والعمل، والتعاون الفعال في معالجة المسائل التي تشكل هموماً عامة للمجتمع. هذه المشاركة ستمهد لتفاهم بين الدولة ومختلف الطبقات، على الأولويات وتوزيع الكلف والمسؤولية عن تحقيق الأهداف.

المشاركة العامة في مناقشة الخطط وتنفيذها، تعزز التلاحم بين المجتمع، وتحول النشاط الاقتصادي إلى مولد للإبداع والفاعلية، ليس فقط في مجال الاقتصاد، بل وأيضاً في مجالات العلم، والخدمة الاجتماعية، والثقافة العامة.

المصدر: الشرق الأوسط