جدل اليوم وكل يوم

آراء

أكثر الجدالات سخونةً في العالم العربي اليوم، يتناول دور الدين في الحياة العامة، وعلى الخصوص في إدارة الدولة وعملها اليومي.

لكل بلد عربي قائمته الخاصة من الأزمات الصغيرة أو الكبيرة، من الفقر إلى البطالة واضطراب الأمن وتعثر النمو، وضعف المشاركة السياسية وغياب الحريات المدنية…إلخ. ومع كل هذه المشكلات، فإن ما يسمى «الإسلام السياسي» بشعاراته وشخوصه وجماعاته وتاريخه، ما زال مادة أثيرة للجدل، بل لا أبالغ لو قلت إنَّه يفوق كل الأزمات الأخرى، في جاذبيته لاهتمام الجمهور ونخبته على السواء. وإن أردت التحقق من صدقية هذا القول، فانظر مواقع التواصل الاجتماعي في أي قطر عربي، أو انظر صحافته، وسترى أنَّه نادراً ما تخلو صحيفة من أخبار أو نقاشات تتصل بـ«الإسلام السياسي».

تضخم اهتمام الناس على هذا النحو، لا يعني بالضرورة أنهم يشبعون الموضوع بحثاً وتحليلاً، بل على العكس تماماً: فهذا نوع من القضايا التي كلما زاد الكلام فيها، زاد غموضها واختفت معالمها، وتعددت مذاهبها، فلا يمكن لخبير طرقها، من دون أن يقابل من يعرقل سعيه أو يستشكل عليه بما يصح وما لا يصح، فضلاً عن اتهامه في مكنونات نفسه ونواياه. ومن هنا بات النقاش فيها أقرب إلى السير على الشوك.

وقد لفت نظري هذا الأسبوع ما قاله الأستاذ يوسف أبا الخيل، الكاتب السعودي المعروف، فقد كتب أولاً على «تويتر»، منصة التواصل الاجتماعي: «ما يهمك مني هو كيفية تعاملي معك ومدى التزامي بواجبات المواطنة… أما مذهبي فهو بيني وبين خالقي». في اليوم التالي كتب أبا الخيل تعليقاً على كثرة الردود المسيئة: «كمية الردود المتشنجة على هذه التغريدة، توضح أنه لا يزال بيننا وبين معرفة واجبات المواطن في الدولة المدنية الحديثة، مسافات ضوئية». إن معظم الردود المسيئة «والشتائم» جاءت من أشخاص يزعمون الدفاع عن الدين الحنيف، مع أن التغريدة لا تمس الدين من قريب ولا بعيد.

ويظهر لي أن تضخم الموضوع المذكور لا ينبئ عن اهتمام معرفي، بل هو انفعال عاطفي سلبي، سببه فيما أظن، هو انعكاس المسار وما تبعه من خيبة الأمل.

بيان ذلك: أن الجمهور العربي (في المجمل) كان يتطلع لنخبة جديدة تولد من رحم الربيع العربي. ومثل كل الحالمين، تخيل الناس أنَّ هذه النخبة ستكون عارفة بالحكم، نظيفة الكف، متواضعة النفس، وزاهدة في السلطة. وحين نظروا للساحة، اعتقدوا أن من يرفع شعار الإسلام ويلبس ثيابه هو الأجدر بحمل تلك الأوصاف. ولهذا حصل رموز الإسلام السياسي وقادته على دعم لا سابق له.

لكن سرعان ما انعكس المسار؛ فقد ظهر أنَّ النجوم الجدد لم يكونوا عارفين بالحكم ولا زاهدين في السلطان، ولا قادرين على علاج مشكلات الانتقال إلى نظام تشاركي. ونعرف ما حصل لاحقاً في مصر وتونس والسودان والمغرب والعراق وغيرها، حين انقلب الجمهور وذهب في الاتجاه العكسي.

تخلي الجمهور عن التيار الإسلامي مثل دعمه سابقاً، لم يكن ثمرة نقاش علمي أو واقعي، بل هو – مثل سابقه – انفعال أملاه الشعور بالإحباط وخيبة الأمل. ولهذا السبب تحديداً، فإنَّه لم يؤد إلى تفريغ مخزون القلق على المستقبل ولم يعزز اليقين في الذات الجمعية. إنَّ استمرار الاضطراب الداخلي والهجرات الجماعية، هو أوضح مؤشر على الارتياب العميق في مسارات السياسة القائمة.

حين يتناقش الناس في قضايا الإسلام اليوم (حتى في أمور العقائد والعبادات، بل حتى التاريخ) فإنه سرعان ما ينفتح عليهم مخزون القلق، الذي تحول إلى قلق على الدين وعلى الهوية الجمعية، مع أنَّه كان في الأصل مجرد انعكاس لأزمات سياسية، لا علاقة لها بالدين.

المصدر: الشرق الاوسط