«جينا من الطائف والطائف رخا»

آراء

جاءت الأخبار من الطائف بمبادرة قامت بها جامعتها الفتية بفتح برنامج لتعليم الموسيقى، وبالطبع فإن الكثيرين سمعوا بالخبر من الضجة التي أثيرت حوله في وسائل التواصل الاجتماعي، ولولا هذه الضجة لربما لم يسمع بالبرنامج سوى الـ850 طالباً وطالبة الذين سجلوا في البرنامج وعدد آخر في الحرم الجامعي من المهتمين، على المستوى الشخصي لم أفاجأ برد الفعل السلبي الذي صدر من البعض، لأنني واجهتها في الفترة التي عملت فيها في جمعية الثقافة والفنون باستقبال عدد من المحتسبين في كل مرة تعلن فيها الجمعية عن برنامج يتعلق بالموسيقى أو السينما، هذا عدا عن عشرات الرسائل الاحتسابية المبرمجة التي تملأ صندوق الرسائل في هاتفي النقال، وبعض هذه الرسائل كان يتجاوز أدب النصح والرفق فيه أو الحوار العقلاني إلى الشتائم والدعاء.

اليوم، وقد خفت صوت الاحتساب غير المنضبط بعد أن أعلنت الدولة موقفها صراحة من هذا الجدل الدائر حول الثقافة والفنون، ووضعتها في صلب رؤية المملكة 2030 كأحد عناصر جودة الحياة، كنا ننتظر أن تبادر المؤسسات الأكاديمية العريقة إلى إعادة النظر في حجب الفنون عن الحياة الجامعية، بعد أن كانت حاضرة وبقوة قبل السيطرة الصحوية على المؤسسات التعليمية، ففي جيلي كانت جامعة الملك سعود وجامعة الملك عبدالعزيز وغيرهما تحتضن أهم النشاطات المسرحية والأدائية في البلاد، ولم يمنع وجود هذه النشاطات الفنية من أن يتخرج من هذه الجامعات علماء مشهود لهم بقيادة الحراك العلمي والثقافي إلى اليوم، كما لم تصرف هذه النشاطات الطلاب من تحصيل علومهم في مختلف الاختصاصات.

ولم يكن من الغريب أن تأتي المبادرة من جامعة الطائف بقيادة مديرها الشاب المستنير الدكتور حسام زمان، فللجامعة مبادرات أخرى، إذ سجلت الجامعة تعيين أول سعودية عميدة لكلية الطب لشطري الطلاب والطالبات وهي الدكتورة دلال محيي الدين نمنقاني، لكن الغريب هو أن تتخلى الجامعات العريقة عن دورها التنويري الريادي وتبقى أسيرة لأعراف ما أنزل الله بها من سلطان.

وعلى رغم أن جامعة الطائف في هذه المبادرة لم تقل إن تعليم الموسيقى سيكون ضمن المنهج الأكاديمي لكلياتها المختلفة في العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، وإنما هو برنامج اختياري ضمن أكاديمية الشعر العربي التي تحتضنها الجامعة، وتقدم من خلالها برامج للهواة في كتابة الشعر وحفظه ومنها الشعر الغنائي، والطائف بالذات عرفت على مر التاريخ بأنها مدينة حاضنة للفنون، وبرز من أبنائها وبناتها الكثير من المبدعين في الموسيقى والمسرح والفنون البصرية الأخرى، لذا كان من الطبيعي أن تبادر الجامعة إلى وضع أولى لبنات تعليم الموسيقى، والمؤمل منها أن تخطو خطوة أخرى لإنشاء كلية للفنون الجميلة تعطي تأهيلاً أكاديمياً، وتعمل على حفظ وتطوير التراث الموسيقي للطائف والمناطق المجاورة لها، وهو تراث غني سيكون عرضة للاندثار ما لم تنهض به مؤسسة علمية أكاديمية مثل الجامعة.

ولا يمنع من قيام الجامعات بهذا الدور كون برامج التحول الوطني وعدتنا بإنشاء المجمع الملكي للفنون، الذي التزمت به وزارة الثقافة والإعلام (سابقاً) وورثته عنها وزارة الثقافة حالياً، ذلك أن دراسة الفنون في المؤسسات الأكاديمية سيكون عنصراً مهماً في الدراسات الاجتماعية، ووجود مناهج الفنون في الجامعات سيكون عنصراً إضافياً واختيارياً لطلاب الجامعات كافة في المواد الاختيارية التي يتيحها المنهج الدراسي، ومن المؤكد أن دراسة الفنون تساعد على تحفيز التفكير الإبداعي لدى الطالب حتى ولو كان يتخصص في الرياضيات أو الفيزياء. كما أن دراسة الفنون لا تعني بالضرورة أن يتخرج كل من درسها فناناً تماماً، كما أن دارسي الشعر لن يكونوا بالضرورة شعراء، فالإبداع ملكة لا تدرس لكنها يمكن أن تكتشف، إلا أن دراسة الفنون تعني الحصول على ثقافة فنية تساعد على رفع الذائقة وتمييز الأعمال الجيدة من الرديئة.

في موضوع الموسيقى يعترف حتى القائلين بحرمتها أنها موضع خلاف بين الفقهاء، والقاعدة الفقهية تقول إنه لا إنكار في ما هو مختلف عليه، ويتفق الجميع على أن السيئ من القول سواء أكان غناءً أم حديثاً مرسلاً هو محرم، لأن هذه هي شريعة الإسلام التي لا تقر إلا ما هو خير، ويختلفون حول حرمة أو جواز سماع الغناء إذا كان لا يدعو إلى شر ولا ينهى عن عبادة ولا يشغل عنها. وليس الغرض من هذا المقال مناقشة الجدل الفقهي حول الموسيقى والغناء، ولكنه دعوة للعلماء للجلوس بعقول منفتحة ليستمعوا إلى الآراء المختلفة ويناقشوها، ليصلوا إلى حل يريح ضمائر المسلمين الذين أضناهم هذا الجدل، على اعتبار أن الموسيقى أصبحت مع سيطرة وسائل الإعلام من النوازل التي لا بد من الوصول إلى قول فصل فيها، خاصة وأن الخلاف يتمحور حول تفسير الأدلة التي يستخدمها المعارضون والمؤيدون من القرآن والسنة.

تعليم الموسيقى في السعودية كانت تنهض به جمعية الثقافة والفنون وحيدة على مدى أربعة عقود، خارج المعاهد العسكرية، وخطت الجمعية أخيراً خطوات ممتازة في مأسسة التدريب على الفنون، لكن الخبر الذي جاء من الطائف يبشر بمرحلة جديدة وجادة من جامعتها، والطائف رخا – كما تقول الأغنية – وسواقيها تجري بخرير يشنّف الآذان كما فنونها الضاربة في العراقة.

المصدر: الحياة