«حديث العرب» وحق الاختلاف

آراء

فى الجمعة الماضية استضاف البرنامج الحوارى المميز «حديث العرب» بقناة «سكاى نيوز» المفكر والأنثروبولجى التونسى د. يوسف الصديق، ولقد استفاض الرجل يشرح رؤاه الخاصة التى تحدّث فيها حول عدد من القضايا حول «القرآن»، النص الأساسى الذى يُسير حياة الناس فى بلادنا، وذكر أننا كمسلمين، لم نقرأه بعد، ودعا كعادته فى ملتقياته كافة لقراءته مرات، بلا توقف، بطرق عقلانية، وهى ذات الدعوة التى ذكرها الله تعالى فى كتابه وكررها كثيرا.

وقال المفكر إن تلك القراءة تتطلب إنسانا مؤهلا، قادرا على البحث. ثم تحدث عن قضايا شغلته فى القرآن مثل: فسخ الترتيب الذى نزلت به الآيات وإعادة ترتيبها بطريقة أخرى، ثم الفترات الزمنية التى مرت قبل التأليف فى قضايا: الناسخ والمنسوخ، وأسباب نزول الآيات. تحدث أيضا عن طريقة كتابة القرآن واختلافها عن النطق، وذكر تخريج «ابن خلدون» فى هذا الصدد، ثم قضايا التنقيط وما يمكن أن يكون قد حدث بها من اختلاط بعض المعانى.

كما ذكر أن الصراع العقلى مع النص القرآنى هو اللائق به، وليس سجنه فى الترتيل والاكتفاء بهذا، كما صرّح بعدم اقتناعه بالخطاب الدينى المقدم فى المساجد وانطلاقه من العقلية السحرية، ودعا للنظر إلى الرسول (محمد) فى طبيعته الإنسانية لا المعجزة، وقضايا أخرى متعددة.

ولقد لاحظت تدافع المعلقين على مقولات الباحث الذى اجتهد، لم يصبروا على الإلمام بفلسفة رؤية الرجل، أو حتى ليتعرفوا على مجمل آرائه، بل التقطوا جملا واقتصوها من حديثه الذى تضمن رؤية نسقية ممتدة تدعو لإعادة التفكر والبحث، وانبروا يسيئون له ويتهمونه بالخرف والإلحاد، كما شملت أحكامهم وشتائمهم المحاور، والبرنامج، والقناة.

وتعجبتُ حزينة أين هو حق الاختلاف فى منظومة ثقافتنا، حق الاجتهاد والتأويل، أين مناقشة الحجة بالحجة، والأخلاق الرفيعة فى غمار النقاش دون تكفير أو تخوين أو إهانات؟

نطالب جميعنا دائما، بداية من التنويرين، والقيادات السياسية المستنيرة، والجموع ذات الوعى المعتدل بتصحيح الخطاب الدينى وتجديده، وأيضا غربلة وتصحيح الخطابات الثقافية الأخرى التى توارثتها المجتمعات العربية والإسلامية، ونستنكر دوما الخطابات التقليدية بمقولاتها التى زرعت بمجتمعاتنا موجات من الجمود والتعصب نتيجة للفكر الأحادى الذى يتمسح فى تقديس الموروثات ولا يسائلها، أو يعيد قراءتها، كما نستنكر العنف والتطرف، وثقافة الخرافة والأساطير التى جعلتنا نتخلف عن تقديم إسهامات علمية وفكرية فى الحضارة العالمية فى العلوم كافة، أو خوض مجالات من التنمية الحقيقية فى مجتمعاتنا.

اتفقنا جميعا فى هذا التوجه لكن يظل تحقيق هذه الأهداف من الصعوبة بمكان، لأنها تتعامل مع تغيير العقل الجمعى، والنسق الثقافى العميق بالوعى البشرى، حيث تكوّن وتراكم عبر آلاف السنوات.

وحين يُعد ويُقدم برنامج جاد مثل «حديث العرب» وهو برنامج ثقافى مميز من نوافذ التنوير القليلة فى القنوات الفضائية العربية، فتلك فرصة سانحة وعظيمة لخلخلة وتطوير العقل الإنسانى فى منطقتنا، ودفعه إلى إعادة النظر فى نسقه الثقافى الذى أصيب بالجمود، وأيضا مساحة معرفة للاطلاع على منتج ومقولات أعلام ومفكرى وطننا العربى. خاصة أن البرنامج يحظى بفريق عمل على درجة عالية من الثقافة والعمق والمهنية، بقيادة محاوره الإعلامى المثقف د. سليمان الهتلان.

يستضيف برنامج «حديث العرب» التنويريين العرب فى شتى المجالات الثقافية والعلمية والفنية، وهو بهذا الصنيع يوفر الجسور والنوافذ المفتوحة لمد ثقافة التحديث والتنوير من خلال الفضائيات التى تتمتع بنسب المشاهدة العالية، وعلى نطاق متسع، حيث إننا نعيش ثقافة الصورة والمشاهدة لا القراءة.

فى الحوارات كلها التى تابعتها من حلقات البرنامج تظهر رغبة المحاور الصادقة فى الوصول مع الضيف لبلورة فكره الحقيقى، وربط هذا المنتج الفكرى مع الأحداث المعاصرة التى تشغل أذهان المشاهدين لربما يسهمون جميعا فى رؤية جديدة لواقع مثقل بالمشكلات، فالرغبة فى الوصول لرؤى محددة وواضحة وليس الاستعراض فقط قلما نجدها فى كثير من البرامج الإعلامية المعاصرة.

من شأن هذه الحوارات الجادة مع التنويريين أن تعمل على تفكيك تركيبة العقول التى تيبست وجمدت من تكرار الخطابات العنيفة والخرافية والإقصائية، من شأنها أيضا أن تُعرّف وتعرض لجهد علماء ومفكرين وفنانين لا يعرف المشاهدون عنهم شيئا ذا بال، من أهدافها أيضا أن تطرح الآفاق لخصوبة التعدد الفكرى وإسهامه فى خلق بشر بأبعاد متعددة.

فحين دُعيت منذ ستة أشهر لتسجيل حلقة ضمن برنامج «حديث العرب» فى القاهرة للحديث عن النقد والإبداع راقت لى جدية الحوار، وغوصها فيما كتبته بالفعل ويشغلنى، وتساءلت: لماذا لا تذاع تلك الحوارات الجادة، فى البرامج المميزة، على كل القنوات العربية، فى بروتوكولات للتبادل الثقافى لو أننا نسعى بالفعل لتجديد خطاباتنا الدينية والفكرية والاجتماعية؟ عندها سيتاح للجميع الاطلاع على أصوات تنويرينا فى كل البلدان العربية.

المصدر: المصري اليوم