محمد شحرور
محمد شحرور
مفكر إسلامي

حرام أم حلال؟

آراء

خاص لـ هات بوست :

تأخذ برامج الفتوى حيزاً لا بأس به من الفضاء الإعلامي، المرئي والمسموع، الإلكتروني وغيره، وتشترك جميعها بمبدأ أساسي هو السؤال عن الحلال والحرام، وفيما ينشغل العالم بالحروب والاحتباس الحراري ومشاكل الفقر والجوع، ننشغل نحن بمدى حرمة نمص الحواجب أو الوشم، وأسئلة مشابهة كثيرة، يدور جلها حول مواضيع لا تحتاج لأكثر من قليل من المنطق.

ويبدو هذا الأمر طبيعياً أمام الكم الهائل من الأحاديث الموروثة التي تجعل من الحياة اليومية مجموعة من المحرمات، يرتكبها الإنسان كيفما تحرك، ومن ثم على المؤمن أن يكون حذراً، يتأكد ليلاً نهاراً من أنه لا يتجاوز الخطوط الحمراء، أو تراه خاضعاً لعقدة الذنب، فهو عاصٍ، وشاء أم أبى لن ينجو من أن تمسه النار، فالله كما صورته لنا كتب التراث هو (حاشاه) إله يعد على الناس عثراتهم ويهوى تعذيبهم، وسيكويهم بدرجات في نار جهنم، وسيعلق النساء من أثدائهن وشعورهن، فصور الجحيم أقسى من أن يمكن تصورها.

لكن المفارقة تكمن في كون ما ورد في التنزيل الحكيم مختلف تماماً عما ورد في الموروث الفقهي، فالله رؤوف رحيم، يغفر ذنوب عباده، ولم يخلقهم ليعذبهم، بل رحمته وسعت كل شيء، ورسالة محمد (ص) التي اكتمل الإسلام بها، هي رسالة رحمة، رفعت الإصر والأغلال التي سبقتها، وخففت الخطوط الحمراء وقلصتها، لتغدو محدودة معدودة، تقبلها الفطرة الإنسانية بكل أريحية، في كل زمان ومكان، فالمحرمات أربعة عشر، لا يعترض عليها أي شعب بالعالم، فيما إذا استثنينا محرمات الطعام، فلا عقوق الوالدين مقبول ولا ظلم اليتامى ولا ارتكاب الفواحش ولا شهادة الزور ولا نقض العهد ولا الربا ولا قتل النفس ولا الغش في الميزان، ولا التقول على الله، أنى كنا، ستبقى هذه القيم خطوط حمراء، وحتى لو تجاوزها البعض فستبقى نسبته ضئيلة، ومن هنا جاءت عالمية الرسالة وعلى هذا الأساس نفهم قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء 107)، ونفهم لماذا اعتبر الله سبحانه المجرمين نقيضاً للمسلمين {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (القلم 35 – 36) فمن يخرج عن القيم الإنسانية خرج من خانة الإسلام إلى خانة الإجرام، حيث الإسلام هو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت 33)، ومن ثم يمكننا تكرار القول أن مساحة جهنم بالنسبة للجنة كمساحة السجون بالنسبة لدول العالم، ولذا فإنها ستستجدي الزبائن {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} (ق 30) علماً أنه لا يملأ إلا المحدد، فنقول: “امتلأ الخزان”، ولا نقول: “امتلأ البحر”.

وبالنظر إلى المحرمات في التنزيل الحكيم نجد أن الأصل في الأمور الإباحة إلا ما حرّم {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ–} (الأنعام 151)، ما عدا الدماء {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} (المائدة 1)، وبالتالي إذا علمنا ما هو محرم علينا، وتفادينا ارتكابه، نعلم أن كل الأمور الأخرى حلال، تحكمها القوانين والأعراف والأذواق الشخصية والمصالح العامة، لكن ما حدث عبر القرون هو الحالة المعاكسة تماماً، فقد تكرس في أذهاننا أن الحرام مسيطر وعلينا السؤال عما هو حلال، ولذلك ترى الناس تبحث عن فتوى هنا وهناك، علماً أن الحرام شمولي أبدي مغلق بيد الله تعالى وحده {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (النحل 116) وإضافة أي محرم يحتاج لرسول جديد بيده بينات من الله، وهذا ما لن يحصل حتى قيام الساعة، والتقول على الله هو بند من بنود المحرمات، فكيف يتغافل شيوخ الفضائيات عنه وهم يوزعون فتاويهم يمنة ويسرة؟

قد يقول قائل: “وماذا عما وصلنا عن الرسول من تحريم لأمور عدة؟” نقول أن الرسول (ص) لم يملك حق التحريم، وما حرّمه هو المحرمات ذاتها التي حرمها الله وبلغها هو، أي في نطاق الرسالة فقط، أما في مقام النبوة فهو لم يمتلك حق التحريم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التحريم 1)، واجتهاداته لمجتمعه تدخل ضمن تنظيم الحلال ليس إلا، وغير ملزمة لنا، وينطبق عليها مبدأ أساسي هو “تتغير الأحكام بتغير الأزمان”.

واليوم فإن معظم القوانين في دول العالم تدخل ضمن تنظيم الحلال أيضاً، فحقل الحلال واسع ممتد، وتخطي حدوده غالباً فيه إساءة للآخرين وللمجتمع، فإذا دخلت المحرمات المحدودة المعدودة في عقول أبنائنا كخطوط حمراء تجاوزها يعني تجاوز القيم الإنسانية، استطعنا التحرر من عقدة الذنب، وتحولت نظرتنا إلى العالم لنراه جميلاً يستحق الحياة، وتمكنا من ثم بناء علاقتنا مع الآخر المختلف من خلال الأخلاق قبل أي اعتبار آخر، وبالتالي فعّلنا الضمير في أنفسنا لنصبح مؤهلين لتمتين العلاقة مع الله وفق طرق مختلفة تحددها شعائرنا.