حوار متأخر مع البوطي – د. عمر الحمادي

أخبار

لازلت أذكر كل ثانية مرت علي وأنا أستمع إلى محاضرة الشيخ محمد سعيد البوطي في صيف عام 2005 في مدينة أستطنبول ، سيل جرار لا يعوقه تقدم السن ولا تجاعيد الزمان والمكان! فلا تسأل عن بلاغته وقريحته ولا عن فقهه وسعة علمه ولا عن أخلاقه وسعة صدره ، ولا غرو أن تختاره جائزة دبي للقرآن الكريم في دورتها الثامنة ليكون شخصية العالم الإسلامي ! بعد إنتهائه من الكلمة توجهت له للسلام عليه وسألته عن بعض مسائل الحديث النبوي فنصحني بإقتناء كتاب (الباعث الحثيث شرح إختصار علوم الحديث لإبن كثير الدمشقي) ، وما زال صوته الخاشع بلهجته الشامية يرن في أذني وهو ينطق إسم الكتاب ب (الباعس الحسيس) .

لا أدري إن كنت تسمعني أو لا في حياتك البرزخية وقد أفضت إلى ما قدم لسانك وعقلك ، لكن اسمح لي أن أخاطبك بكل صراحة ومع كامل الإحترام للخمسين السنة التي بيني وبينك !

لقد كنت يا شيخ سدا منيعا ضد سياسة الإقصاء التي حاول البعض فرضها على المذاهب الأخرى المخالفة حتى خلتك مجدد مذهب الأشاعرة السنة في وجه الجمود الذي أصابه بعد الغزالي والجويني والرازي ، ومع أنك كنت تعتقد أن السلفي يقصي فكر الآخر إلا أنك أيضا أقصيت بإرشاداتك المنبرية أحياء وأجسادا وأفكارا عن سجل الحياة بأكملها ووقعت وقعة لا تصلحها البيانات الصحفية ولا الحواشي الفقهية !

كم كنت صريحا وواضحا يا شيخ حين تكلمت عن “مشكلاتنا” و “مشكلاتهم” ، وكم كنت جريئا حينما قلت أن السلفية “مرحلة زمنية مباركة وليست مذهبا إسلاميا” ، وكم كنت مباشرا حينما تكلمت عن “اللامذهبية” ، ولكنني لم أرى شيئا من إقدامك هذا في مواجهة النظام الذي يواجه شعبه طائفيا وعسكريا وأخلاقيا ، لاسيما وأنت أكثر من يعلم أن سكوت مثلك لا يجوز لأنه ليس كسكوت بائع البندورة المسكين الذي يذوق الأمرين والأذلين في مواجهة أنهار الدم ! ومع ذلك فإنه كان أكثر شجاعة منك في حثو التراب على وجوه الظالمين !

كم كنت فيلسوفا ومنظرا وأنت تنقض “أوهام الجدلية والمادية” و توافق”الدين والفلسفة” وتضع “اليقينيات الكبرى” كمنارة للتائهين في كتب العقائد ! واجهت الملحدين ندا بند وصارعتهم بقلمك البتار وأجزعتهم بعقلك الجبار ! لكن للأسف الشديد كان الملحدون أكثر إنسانية من فتاويك التي كنت تلقيها تترا في جامعة دمشق لتحرض الناس على الجهاد مع المجرمين ضد المساكين! الملحدون واللادينيون واللاأدريون أيديهم لم تلطخ بالدماء مثل ما لطخ لسانك ! فمن سيكون حسابه عسيرا مع الدماء في يوم القيامة!؟ ياليتك التفت ولو برهة إلى مبادئ “الحكم العطائية” التي كنت تقدمها للناس أجمعين! هل كان سيحصل منك ما حصل؟

سأقرأ كتبك وسيقرؤها غيري ولكنني سأنسى أو أتناسى أنك مؤلفها وسأعتبرها مجهولة المؤلف تماما كما أقرأ الكتب المنسوبة لفلاسفة اليونان كأبوقراط وأنا لا أدري إسم مؤلفها الحقيقي وهل ولد من بطن أمه أو لم يولد ! إن قرأت إسمك أخشى أن ألفظها من يدي وقلبي، سأعتبرها لفافات ووجادات اكتشفت في أحد قيعان البحر الميت والتي لا أعرف اسم كاتبها! فالحق الخارج من أفواه الرجال أحق أن يتبع من الحق الخارج من أسماء الرجال! لاسيما واسمك الذي على غلاف كتبك صار مرتبطا بالشبيحة صلة رحم لا تمزقها لا الزلازل ولا البراكين ولا الأعاصير !

ماذا ستفعل حينما تلتقي بالستين ألفا أو يزيدون من الذين أفضوا إلى ربهم وهم لا يعلمون بأي ذنب قتلوا ! ماذا ستقول لهم وماذا ستبرر؟ لن ينفعك معرفة الخلاف الفقهي في الدية هل هي خطأ أم عمد أم خطأ شبه عمد لهؤلاء القتلى ، ففي ذلك العالم لا ينفع لا المال ولا البنون ولا خلاف الشافعي مع أحمد ؟ ستواجه كل ما إقترفته وحيدا

كم أتمنى من كل قلبي لو كان النظام قد أكرهك لتصدر هذه الفتاوى المشينة التي تجيز لبشار الأسد وزبانيته أن يمتطوا رقاب السوريين بالدبابات والطائرات! فصار لا يمر يوم إلا ونسمع عن دفن عشرات الأحياء في دير الزور و قتل المئات في حلب و جرح الآلاف في حماة .

لو لم يحدث ما حدث لكانت جنازتك تضاهي جنازة الشيخ الشعراوي ولخرج الناس لوداعك بالملايين وهم يقرأون الفاتحة! ولرأيت جميع وسائل الإعلام من طنجة الى جاكرتا وقد توشحت بالسواد هما وحزنا عليك! لكن ما حصل هو أن الجميع تبرأ من قتلك من باب أن دور العبادة يجب أن تبقى بعيدا عن ساحات المعارك ! وضاع دمك بين الأطراف المتنازعة حيث لا يستبعد على حليفك بشار التضحية بك من أجل إستعداء السنة على قوى الإئتلاف بعد اعتراف الجامعة العربية بحكومتهم !

وسيبقى موتك لغزا تتداوله البرامج الوثائقية في السنين العشر القادمة ! لكن لن يغير ذلك في صورتك التي طبعتها على مشاعرنا قبل وفاتك!

خاص لـ ( الهتلان بوست )