دروس إعلامية من “أوراق بنما”

آراء

لا شك أن المتضررين من الحقائق التي كشفها مشروع “أوراق بنما” سيكرهون ما حققه تحالف من الصحافيين الاستقصائيين، استطاعوا بفضل التقنية الحديثة من التواصل والعمل سويا رغم المساحات الجغرافية التي تفرقهم، فأزاحوا النقاب عن ممارسات تهرب من دفع الضرائب وتكديس أموال طائلة في حسابات خارجية قام بها عدد من أبرز أثرياء وزعماء العالم. 

طبعا الموضوع لا يعنيني بأي شكل سوى بشقه الصحافي، فلا ثروة أخفيها (بكل أسف!) ولا أنا في مكان يفرض الضرائب أصلا كي أضطر أن أتهرب منها. وبطبيعة الحال، يشكل الأمر “فضيحة” أكبر في الدول الغربية كبريطانيا، حيث يعد موضوع التحايل على نظام الضرائب من الموبقات التي تخضع لعقوبات صارمة لا تسامح فيها من قبل المحاكم ولا الناخبين. 

إلا أنني أنظر للموضوع من منطلق إعلامي بحت، خصوصا في ظل الحديث عن تأثير التكنولوجيا على الصحافة التقليدية. وما يمكن قوله هو أن “أوراق بنما” أثبتت أن الصحافة الاستقصائية لا تزال بخير في هذا الزمن الذي باتت تقفل فيه المؤسسات الإعلامية – الكبرى منها والصغرى – أبوابها، وتعلن إفلاسها. الواقع هو أن معظم المؤسسات الإعلامية تواجه مشاكل مالية بسبب سوء الإدارة، وليس بسبب ضعف محتواها.

ولعل أشهر مثال على ذلك هو ما جرى لشركة “نيويورك تايمز” إبان الأزمة الإقتصادية عام ٢٠٠٩. فلا يمكن لعاقل أن يتهم صحافيي هذه الصحيفة العريقة الحائزين على جوائز “بولتزر” في شتى المجالات بأنهم لا ينتجون محتوى مميز، وأن الجريدة لا تبيع أو تحقق مداخيل إعلانية، لكن وعلى الرغم من ذلك غرقت الشركة في الديون التي كادت أن تشلها لولا تدخل الملياردير كارلوس سليم حلو الذي وهب الصحيفة “طوق نجاة” بقيمة ٢٥٠ مليون دولار. أما كيف غرقت “نيويورك تايمز” في الديون فتلك هي القصة، والسبب كان في مديريها التنفيذيين، وليس صحفييها، الذين اختاروا الاستثمار – مثلا – في برج جديد في إحدى أغلى المناطق في المدينة (رغم أن مبنى الجريدة التاريخي لم يكن يشكو من شيء)، وعلى الرغم من أنهم كانوا يدركون أن الورق في تراجع، اختاروا سياسة “دفن الرأس في الرمال” والإنفاق وكأن لا شيء يحدث بدلا من إعادة التخطيط وفقا لحجم السوق الجديد، والاقتناع بأن الانترنت هي المستقبل. مشروع “أوراق بنما” هي نداء إستيقاظ للصحف، فهي تثبت أن الصحافيين قادرين على العمل سويا وانتاج صحافة تليق بجوائز “بولتزر” دون الحاجة لمطابع، ولا لمكاتب دولية، ولا حتى للجرائد نفسها… ففي عصر ال”دوت كوم” بات بالإمكان شراء “منصة” بكلفة قد لا تزيد عن ٢٥ دولار ثمنا للنطاق الإلكتروني، وبالتالي يذهب المال إلى حيث يجب أن يتجه: تمويل صحافة محترفة تخدم مجتمعاتها.

المصدر: إيلاف