«ساق البامبو» العودة إلى الجذور

آراء

إنها رحلة التيه، بحثًا في الأسماء عن الاسم، وفي الطرقات عن الحقيقة وفي الأسئلة المتجردة عن الذات. هي تنطلق بصاحبها من ذاته وإلى ذاته مدفوعا بنوع مختلف من الجنون. ذلك الجنون الذي يتقاذف الروح كما يفعل مركب يصارع الموج في لجة من تيارات وعادات وتقاليد تكاد تتشابه في كل مكان على هذه البسيطة. تلك التعقيدات من أعراف لا تمت للدين ولا الانسانية بصلة والتي يمكن أن تحول أي شخص إلى ما هو أقل من الإنسانية، تلك التعقيدات التي تحول ملامح الوجه المنتمية إلى عرق مختلف إلى وجه باهت الملامح في دستور القبول المجتمعي. المشكلة إذن ليست في الأسماء بل بما يختفي وراءها. اسم يختاره شخص او اثنان ويقرر مجتمع بأكمله أن يتجاهله، ولا يشفع له القانون الذي يحفظ حقا أو يسقطه.

الحكاية في «ساق البامبو» لكاتبها سعود السنعوسي، حكاية رغبة في التقارب الإنساني قبل الجسدي، وحكاية وعد قطعه الواجب قبل أن تقطعه العاطفة. حكاية هرب من جحيم يعيش فيه البشر باختيارهم أو رغمًا عنهم، جحيم يخلق نسخًا بشعة بثمن أو بدون ثمن.

هي حكاية حب هزمته التقاليد ولفظه المجتمع لأسباب تعددت، حب لم تنجح الثقافة في الدفاع عنه ولا حقوق الانسان التي يؤذن بها حملة الشعارات الرنانة، وياللمأساة يصادرونه بعد أن يترجلوا عن صهوة الحقوقية.

وهنا حيث لم تنجح الكتب في تغييب العقول، وفشل البحر في تغييب الأجساد، تمكن منطق البشر الأعوج وحده من تغييب الأرواح.

ومن زواج لا يشبه الزواج، إلى ولادة «لعنة» ظلت تلاحق صاحبها طويلاً، وهي تتشابه مع كثير من اللعنات التي يلقيها متسيدو الإقصائية في مجتمعنا الخليجي على فئات من البشر مثل «ذوي الأعراق المختلطة أو البدون»، إلى قدر لا يشبه كل الأقدار أو معظمها «أن يقضي عيسى راشد الطاروف عمره باحثا عن اسم ودين ووطن»، الطاروف هذه الشبكة التي تحبس فيها الأسماك العملاقة بكل تاريخها العريق وتفلت منها تلك السميكات الصغيرة الملونة والتي تجد لها مهربًا من أصغر الفتحات.. هكذا جاء حظ عيسى من السماء، ليفلت من قبضة الفلسفات البالية..

تطرق الرواية أبواب محاذير كثيرة، وترسخ حقائق مختلفة وهي شجاعة الطرق على أبواب الوطن الذي يناديك وينفيك، وعلى باب القدر يحيطك بكل شكل ولون ورائحة، واللغة، لغتك الأم أو الأب واحدة تحتويك وأخرى تعذبك وترسخ جهلك وتطردك من الجنة.

هي رواية الأنبياء يصلبون في أوطانهم وجلودهم وفلسفاتهم وشرائعهم ليحيوا أبطالاً في منافيهم الأخيرة.

ويعود الحب كالعبد الصالح سائحًا في القلوب وموقوفًا على ضفاف الانتظار كميناء صغير للحيارى، هذا الميناء الذي تتجاهله البواخر العملاقة، هو النور في نهاية الرحلة.

في ثورة عيسى على حظه وذكرياته القابعة في بيته الصغير في (مانيلا) وتلك التي لم يساهم في صنعها في بيت الطاروف في (الكويت)، وفي حنقه وضيق ذات يده وامتلاء جيوبه بالدنانير وتصحر أرض قلبه، في ثورته تلك كان الله هاجسًا لا يهدأ في صدره.. في الكنيسة والمعبد والمسجد.. عيسى وبوذا ومحمد.. وبين دين يدعو للتسامح والسلام، وجماعات تفتك بالعباد باسم هذا الدين، انتصر النور الذي يولد مع الانسان، لان الله مكانه في يقين الروح وليس في التساؤلات الحائرة يلقيها العقل، «التفت إلى نبضات قلبي المطمئنة، فعرفت أن الله هنا». وتطول الحيرة ليصبح الوطن عصيا على بعض ابنائه «كلما أحكمت قبضتي على طرف ثوبها، فلتت من يدي، أناديها، تدير لي ظهرها.. أركض إلى الفلبين شاكيا» وكان «من الصعب أن آلف وطنا جديدا. حاولت أن أختزل وطني في أشخاص أحبهم فيه، ولكن الوطن في داخلهم خذلني».

الفكرة في أن الضحية قد تكون ضحية لغيرها، فهل يدعو ذلك للغفران بعد الخذلان؟

عيسى وغسان وخولة وهند وغنيمة وميتزورا وغيرهم في هذا العمل، ضحايا للأماكن والحروب والأسر والمجتمعات.. إسقاطات وتجاوزات وحدود، ولكن في النهاية لا بد من النظر للوراء، إلى المكان الذي أتينا منه، حتى نصل إلى وجهتنا.. قد تنظر وراءك وتجد وطنك الحقيقي وحبك ورسول سلامك منتظرًا، لتنطلق بكل ذلك في نهاية الأمر إليك..

المصدر: صحيفة الأيام