صباح الأحمد.. المهندس الاستراتيجي لدبلوماسية الخير

أخبار

كرّس أمير الكويت الراحل، الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، حياته لمبادرات السلام والصلح وتقليل حدة النزاعات في المنطقة والدعم الإنساني للمحتاجين في العالم، وعايش خلال توليه الحكم منذ عام 2006، حقبة هي الأكثر اضطراباً في تاريخ العرب الحديث منذ الغزو العراقي للكويت عام 1991 الذي كان حينها وزيراً للخارجية.

فاستمر في نهج الاعتدال والابتعاد عن الصراعات الذي كان قد بدأه مبكراً منذ توليه أول مناصبه في الشؤون الخارجية في ستينات القرن الماضي، واستطاع النجاة بمركب الكويت من محيط عاصف مضطرب في المحيط الواسع، خصوصاً في العراق المجاور الذي كان يعيش في اضطرابات مديدة منذ عام 1980 إثر إعلان الحرب مع إيران.

واستحق الراحل بجدارة لقب «عميد الدبلوماسية»، نظراً لبصمته الإيجابية على الأمن والسلم في المنطقة، كما كرمته الأمم المتحدة بلقب «قائد العمل الإنساني» في سبتمبر 2014، وعرف كذلك بـ«أمير الإنسانية».

نهج واحد.. سياسي وإنساني

يعد نهج الراحل الشيخ صباح الأحمد، مدرسة متكاملة، في السياسة والعمل الإنساني، فقد التزم بالموازنة بين هذين المسارين بشكل استثنائي، حيث حرص على أن تكون مخرجات أي مبادرة سياسية تخفيف المعاناة الإنسانية، ولم يسبق للأمير الراحل أن قدم مبادرة نتج عنها مفاقمة للمعاناة بأي شكل من الأشكال.

فنجح بذلك في عملية ربط السياسة بالعمل الإنساني، وهي توليفة مبدعة يتشارك فيها عدد قليل من الدول مثل الإمارات والسعودية إلى جانب الكويت. وربط هذين المسارين، الإنساني والسياسي، ناتج عن خبرة تاريخية.

تولى الشيخ صباح الأحمد أول منصب رسمي في أول تشكيلة حكومية عقب استقلال الكويت في يونيو 1961، فتولى وزارة الإرشاد والأنباء في الحكومة الأولى، وقاد عملية دعم وتطوير وسائل الإعلام في الكويت، وفي عام 1963 تولى حقيبة الخارجية، ويعد المهندس الاستراتيجي للدبلوماسية الكويتية العربية والباني الحقيقي لها، وتنقل في عدد من المناصب الوزارية والرسمية.

بصمة إنسانية

وللأمير الراحل بصمة إنسانية تمتد على قارات العالم أجمع، وتدفق عطاء الكويت غزيراً حين تسلّم مقاليد الحكم عام 2006، استمراراً لنهج إنساني تأسس مع استقلال الكويت، فكانت الكويت ولا تزال سباقة إلى مساعدة الدول الفقيرة وإغاثة المنكوبين.

وكان للأمير الراحل دور ريادي في دعم التنمية على مستوى العالم بالمساعدات التي تقدمها الكويت وتستفيد منها أكثر من 100 دولة، كما أكد البنك الدولي. فقد توالت مبادراته التنموية والإنسانية، وتتابعت قوافل الإغاثة الكويتية لضحايا الحروب والكوارث الطبيعية في كل مكان.

ففي مواجهة ارتفاع أسعار المواد الغذائية وأسعار الطاقة في العالم أنشأت دولة الكويت عام 2008 صندوق الحياة الكريمة، وساهمت في رأسماله بمئة مليون دولار لمواجهة الانعكاسات السلبية لأزمة الغذاء العالمية على الدول الأقل نمواً.

وبعد اندلاع الحرب في سوريا، أخذت الكويت على عاتقها حشد الدعم الدولي للشعب السوري الذي يمر بأقسى أزمة إنسانية يشهدها العالم منذ عقود، فاستضافت المؤتمر الدولي الأول لمانحي سورية في يناير 2013، حيث أعلن مساهمة دولة الكويت بمبلغ 300 مليون دولار أمريكي لدعم الوضع الإنساني للشعب السوري.

وفي عامي 2014 و2015 أقيم المؤتمران الدوليان الثاني والثالث لدعم الوضع الإنساني للشعب الشقيق، وتبرّعت الكويت بمبلغ 500 مليون دولار أميركي في كل منهما.

وعلقت رئيسة وزراء النرويج على المبادرة بالقول: إن أمير الكويت نجح في خلق حشد دولي كبير، وجعل قضية اللاجئين محل اهتمام مختلف الدول والمنظمات الدولية، كما وصلت الإغاثة الكويتية إلى كافة الدول التي واجهت أزمات خلال السنوات الماضية، من السودان ومصر إلى موريتانيا والدول الأفريقية، فضلاً عن آسيا.

وساطات مبكّرة

بدأت ملامح نهج أمير الكويت الراحل، الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، في الوساطة تتضح خلال السنوات الأولى من مهامه في الخارجية، حيث رسخ صورة حيادية للكويت في الأزمات، وبدأ في ستينات القرن الماضي وساطة لحل أزمة الحرب اليمنية وأسهم في إطلاق مفاوضات بين الأطراف المتحاربة عام 1966.

كما لعب الأمير الراحل دوراً محورياً في إنهاء الأطماع الإيرانية بالبحرين، واستضاف محادثات أسفر عنها عرض القضية على الأمم المتحدة، والتي انتهت بإجراء استفتاء شعبي واستقلال البحرين في عام 1971. ويومها أثبتت توجيهات الشيخ صباح الأحمد للمسؤول المباشر عن الملف، بدر الخالد، الرؤية البعيدة الذي تحلى بها الراحل الكبير، وقد سرد بدر الخالد جوانب من هذه الحنكة في كتابه «رحلة مع قافلة الحياة».

وفي أغسطس 2018، استذكر العاهل البحريني، الملك حمد بن عيسى آل خليفة، «أفضال الكويت الكثيرة» على البحرين، والعلاقات التاريخية الوثيقة التي تجمع البلدين. واستذكر العاهل البحريني الدعم الكويتي للمملكة في مرحلة الاستقلال، مشيراً إلى الولاء المطلق لشعب البحرين لقيادته منذ «الاستفتاء»، ومثمناً دور الدبلوماسية الكويتية في مؤازرة المملكة في تلك المرحلة.

الخلاف العراقي الإيراني

توسط أمير الكويت الراحل، الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، في ملف آخر يتعلق بإيران، وهو الخلاف الحدودي مع العراق والسيادة على شط العرب، إلا أن فريق الدبلوماسية العراقية قرر في النهاية عدم الأخذ بنصيحة الشيخ صباح الأحمد، الذي اعتبر التنازل عن شط العرب هضماً لحق العرب.

فذهب الفريق السياسي العراقي للتوقيع على اتفاقية الجزائر مع إيران، وبموجبها تنازل الجانب العرقي عن شط العرب. وبعد أقل من خمسة أعوام على التوقيع، أعلن العراق إلغاء الاتفاقية ثم تورط البلدان في حرب مدمرة استمرت ثماني سنوات وهزت المنطقة أكملها، كان من الممكن تفاديها لو أن الرئيس العراقي ونائبه قد استمعا لرأي الشيخ صباح الأحمد. لم يشفع للكويت دورها الرائد في خدمة العراق ومصالح العرب.

وحين غزا النظام العراقي السابق الكويت كان الشيخ صباح الأحمد وزيراً للخارجية. فوجدت عصابات الغزو نفسها مفلسة سياسياً بعد احتلال الكويت، أمام حنكة دبلوماسية استطاعت أن تكسب تعاطف أغلب دول العالم وأن تجعلها تقف مع الشرعية الكويتية بقيادة جابر الأحمد الجابر الصباح ضد الغزو العراقي. ومما يحسب له أن الدبلوماسية الكويتية استطاعت كسب الاتحاد السوفييتي في إدانة الغزو العراقي ودعم تحرير الكويت، رغم أن السوفييت كانوا حلفاء للعراق وتجمعهم اتفاقيات تعاون وصداقة مع النظام العراقي.

بعد تحرير الكويت، استمرت السياسة الخارجية الكويتية على أسس ومبادئ وثوابت رئيسية في مقدمتها: التوازن الاستراتيجي، والحياد الإيجابي، والدفاع عن الثوابت القومية، والابتعاد عن الأحلاف العسكرية، إدراكاً منها لحساسية وضع الكويت ودقة مصالحها الاستراتيجية العليا التي تفرض عليها انتهاج سياسة خارجية متوازنة ومنفتحة على جميع دول العالم بما يضمن الحفاظ على أمن واستقرار الكويت، وصيانة استقلالها وسلامتها الإقليمية، بعيداً عن التنازعات والتجاذبات الأيدلوجية أو العسكرية التي كانت تحكم العالم إبان الحرب الباردة وما بعدها.

محطات

ولد الأمير الراحل في السادس عشر من يونيو 1929، وهو نجل حفيد الشيخ مبارك الصباح، مؤسس الكويت الحديثة. والشيخ صباح، الأمير الـ15 للكويت، وهو أول من رفع علم الكويت فوق مبنى هيئة الأمم المتحدة بعد قبولها انضمام الكويت في مايو 1963.

وعلى الرغم من تقدمه بالسن، ظل الأمير منخرطاً إلى حد كبير بالأعمال اليومية وبالسياسة الإقليمية والدولية، وقد حضر في نهاية مايو 2019 ثلاث قمم خليجية وعربية إسلامية في مكة استمرت أعمال كل منها حتى ساعات الصباح. ودعا خلال هذه القمم إلى نزع فتيل الأزمات الإقليمية، وخفض التصعيد في المنطقة بينما كانت التوترات تزداد بين إيران والولايات المتحدة.

وفي الأشهر الأخيرة من حياته، قاد الأمير جهود بلاده لمواجهة فيروس «كورونا» المستجد، وكانت الكويت اتخذت إجراءات إغلاق صارمة لمنع انتشار الوباء.

اتّبع الشيخ صباح سياسة مستقلة، ما ساعد على تحصين سمعته الإقليمية وصقلها. وما إن تسلّم منصب الأمير، حتى شرع في ترسيخ الاستقرار النيابي في الداخل. وبفضل هذه السياسات، عاشت الكويت استقراراً مالياً كبيراً مع تجاوز ثروة الصندوق السيادي 600 مليار دولار، للمرة الأولى، بفضل أسعار النفط.

المصدر: البيان