سمير عطا الله
سمير عطا الله
كاتب لبناني

عربة العائلة

آراء

تملأ الكتب رفوف المكتبات حول «الربيع العربي» بجميع اللغات.. كيف بدأ، ولماذا تحول إلى كوابيس متنقلة وحروب متوالدة. وعن «المؤامرة» ومَن خلفها ومَن أمامها. وعن «التوغل والتوحش»، باعتبارها ظاهرة غريبة علينا صدرت إلينا في صناديق خفية عن طريق مخابرات العالم.

أكتفي بقراءة العناوين وأمشي. وأتذكر دومًا أوكتافيو باث، عبقري المكسيك، وحكاية الفلاح الذي سمع ببغاء يتكلم، فتقدم منه وانحنى معتذرًا: «سامحني يا صاحب السعادة، كنت أظنك طائرًا».

يا حضرات، كان عنوان الربيع العربي وكتابه في منتهى الوضوح: طارق بن محمد البوعزيزي يحرق نفسه اعتراضًا على الفقر الماضي والآتي وانعدام المستقبل. الناس المرتاحة لا تنزل إلى الشوارع. الرجال الذين لا يشعرون بالمهانة في حياتهم لا يخرجون إلى الساحات. الذي اعترض هو الإنسان الذي تأمل 50 عامًا من النظام العربي، ووجد دولاً تعرض عليه الكرامة البشرية في اليافطات التي أعمته قراءتها وأكاذيبها وخواؤها وعدم خجلها بالكذب.

معظم لاجئي المدافن البحرية الجماعية هم لاجئو فقر وليسوا لاجئي أمن. كانوا ممنوعين من السفر إلا بتأشيرة خروج، فلما رأوا التأشيرة جماعية، لم يعد أحد يريد البقاء حيث هو. ذل المكان ولا ذل الزمان. ذل الغريب وليس ذل القريب. يأتون إلى بلدان فيها أرصفة، ووسائل نقل بشرية، وفرص عمل، وفرص حياة، وأطباء ومستشفيات ينام الناس في أسرتها، لا على أبوابها.

يصلون إلى بلدان، الدولة تعمل فيها من أجل الناس، وليس للناس حياة فيها سوى الهتاف للقائد. عربة خضار وفاكهة لإطعام العائلة، هذا كل ما في الأمر. سئمت الناس طوابير العاطلين عن العمل، والرواتب المذلة، والأبواب المغلقة، والبقاء في الدرجة الثالثة من هذا العالم، فيما تقدمت قارات وشعوب بأكملها نحو الانتماء إلى كرامات الحياة: من آسيا المستنقعات إلى أميركا اللاتينية التي كانت تنكل بها الانقلابات، ويلتهمها التوحش والفساد. وها هي البرازيل تحاسب المزيفين الذين نهبوها بعدما وعدوها بالإنقاذ وإلغاء حياة الصفيح. كان ممنوعًا في النظام العربي أن تناقش فقرك ومصيرك وطبابة أولادك ولماذا تخرج الجامعات أجيالاً لا عمل لها ولا دور ولا مستقبل.

لذلك، فجر صاحب عربة ثمار زهرية اللون، بركانًا كانت حممه تُنفث نحو داخله. «الدراسات» عن الربيع العربي اجتهاد معقول، لكن لا ضرورة له. خمسون عامًا من الفشل الاقتصادي والعسكري والاجتماعي، وفوق كل شارع يافطة وخلف كل زاوية منكد حياة، وأخصب بقاع الأرض جرداء. وفي كل هذا الجدب لم يكن أحد يحلم بربيع. فقط ببضع ثمار تملأ عربة العائلة.

المصدر: الشرق الأوسط