غسان سلامة: وسائل الاتصال الحديثة عطلت دور الرقيب على الفكر في مجتمعنا

مقابلات

دبي: شاكر نوري

اللقاء بالمفكر اللبناني غسان سلامة يثير أكثر من إشكالية كونه متنوع الثقافة ومتعدد الاهتمامات، إضافة إلى أنه يعد من الشخصيات التي راكمت خبرات واسعة، فهو مثقف متنور وأستاذ جامعي ووزير سابق ودبلوماسي بارز في الأمم المتحدة. وأثرت مؤلفاته على المكتبة العربية، واعتبرها كثير من النقاد محطات أساسية في مسار الفكر السياسي العربي.

هنا حوار معه حول جملة من القضايا الثقافية والفكرية العربية بمناسبة زيارته إلى دبي لترؤس اجتماع الصندوق العربي للثقافة والفنون:

* هل يمكن أن تعرفنا بطبيعة ووظيفة «الصندوق العربي للثقافة والفنون»

– «الصندوق العربي للثقافة والفنون» مؤسسة أهلية أنشأتها منذ سبع سنوات وتطورت بطريقة فاقت توقعاتي، كما أنها مبعث افتخار بالنسبة لي، لأنها مؤسسة أهلية لم تتسلم مليما واحدا من أي حكومة عربية أو غير عربية. إنها تدعم الإبداع في مختلف أرجاء الوطن العربي، وتحرص على دفع الكفاءات من الشباب في مختلف جوانب الفنون من خلال منح تعطى لهم، للانطلاق في عملهم.

* كيف تولدت لديك فكرة إنشاء هذا الصندوق؟

– ولدت هذه الفكرة، منذ أن كنت وزيرا للثقافة في لبنان، إذ شعرت أن هناك كثيرا من المواهب الشابة تهدر، وتهمش من قبل الحكومات، لأسباب سياسية أو مذهبية. وأنا سعيد، حاليا، كون الصندوق تمكن من تقديم نحو 12 مليون دولار خلال السنوات السابقة، إلى 460 مبدعا عربيا، ينحدرون من 15 دولة. ولعل النجاح الذي لمسناه جاء من خلال ازدياد ميزانية الصندوق، بمقدار 20%. وآمل أن نستمر على هذا النحو الاطرادي مع الحفاظ على استقلاليتنا. ولا بد لي من القول إنني أصر على أن الكفاءة هي المعيار الوحيد للفوز بدعم الصندوق. وفاز بذلك العشرات، وتمكنوا من حصد الجوائز الرفيعة، من إيليا سليمان في مهرجان «كان»، ثم حصد ثلاث جوائز من مهرجان أبوظبي للفيلم الوثائقي. وكذلك فوز البعض ممن نالوا دعم الصندوق، بجوائز عالمية في هولندا وسويسرا. إضافة إلى وجود سبعة آخرين، في لائحة مهرجان دبي السينمائي.

* إذا كانت ميزانية الصندوق ليس مصدرها الحكومات، فمن أين إذن؟

– هناك مصادر خاصة. أولا من الأفراد، إذ لدينا نحو 60 متبرعا فعليا، من رجال أعمال ومتمولين. وكذا لدينا شركات ومؤسسات متعددة داعمة، فمثلا هناك ثلاثة مصارف في دبي تساعدنا. ولدينا دعم من مؤسسات خيرية دولية، مثل مؤسسة «دون» في هولندا ومؤسسة فورد ومؤسسة المجتمع المنفتح. وكل حساباتنا وميزانية الصندوق، موجودة على الموقع الإلكتروني، ذلك لأننا نعمل بكل شفافية. وكذلك يعمل في مجلس الأمناء متطوعون.

* كيف تصف طبيعة ومستوى الإبداع العربي، في الوقت الحالي.. وماذا عن أهلية مقوماته؟

– هناك تفجر خلاق للطاقات الإبداعية العربية، ويطول مختلف الحقول، في السينما والكاريكاتير والأغاني والفنون والأدب والأفلام الوثائقية. وهناك هواة كثيرون دخلوا الإبداع من خلال مواكبة الانتفاضات الحاصلة. أعتقد أن هناك عددا لا بأس به منهم، قادرا، مع بعض الحضانة، على التحول إلى الاحتراف في هذه المجالات الإبداعية. وهذا شيء جميل.. أقصد هذا التفجر، ولكن هناك أيضا معوقات. وهي أولا، لم تعد تماما كما في السابق. إلا أنه لا تزال توجد دول تمنع وحكومات تهمش، ولكن هذا لم يعد يجدي، ولكن الحكومات تلك، مصرة على تلك الممارسة. وأجزم أنها غافلة عن دقة متابعتها للأحداث والتنبه أننا نعيش في وضع أصبح الرقيب عاطلا عن العمل، لأن وسائل الاتصال الحديثة ألغت علة وجوده. فلم يعد المقص ينفع لكل شيء. وليس بإمكاننا منع الكتب من عبور الحدود. هناك سيولة غير مسبوقة، حاليا، في التاريخ، للأفكار والمعلومات والأعمال الإبداعية. إن الحكومات العربية عاجزة عن ضبط العجز في هذا المجال، وغير ناجحة في مواكبة السيولة الهائلة في انتقال الأفكار والأعمال الإبداعية. وأريد أن أؤكد وجهة نظري في هذا الصدد، إذ إنني لا أرى أن الرقابة ناجعة حين تكون حكومية رسمية، فهي فقط مجدية وفاعلة حين تنبثق من المجتمع وليس من الحكومات.. ونحن نواجه عائقا مهما في هذا الصدد، حيث امتزجت في عدد من المجتمعات العربية، القضايا والإشكالات، وتداخلت حيثيات وجوانب المسائل الإبداعية، وبذا بات إبعادها يشكل خطرا على حرية الرأي والمعتقد. والمعوق الآخر يتجسد في أن التزمت الموجود في المجتمع يشكل خطرا على حرية الإبداع والمعتقد. ونحن نرى كتبا لا تمنعها الحكومات، ولكن تمنعها التيارات المتزمتة داخل المجتمع، ونرى مبدعين لا يهددهم أصحاب السلطة ولكن يهددهم المتطرفون داخل المجتمعات. ومن وظائفنا – نحن المثقفين – أن نحمي حرية التفكير ضد التيارات المتزمتة التي تريد أن تفرض على مجتمعاتنا لونا واحدا من التفكير. مما يؤدي إلى بؤس الثقافة. أما المعوق الثالث، فهو منطق السوق والتعامل معه ضمن المجال الفكري، إذ يجري تفضيل الأعمال القابلة للاقتناء على الأعمال غير القابلة للاقتناء. لذلك تهتم السوق كثيرا باللوحات المرسومة، لأن صاحب المال يمكن أن يشتري لوحة ويضعها في منزله، ولكنه لا يتبرع لدعم عمل مسرحي أو فرقة مسرحية أو فرقة رقص.

* كيف ترى قيمة مضمون الفكر العربي من خلال الأعمال التي تنتج، مقارنة بنظيرتها في العالم؟

– لدي صديق كتب كتابا جميلا، وهو أوليفييه أروا، بعنوان: (الجهل المقدس). وأنصح الجميع بقراءة هذا الكتاب، لأنه يشير إلى معلم لا يختزل الوضع الفكري كله في العالم اليوم، ولكنه يشير إلى إحدى سماته الكبرى، والمتمثلة بحلول ما يمكن تسميته (النيو فقيه) مكان المثقف.. ويتزامن في عصرنا هذا، مستوى متقدم من الجهل مع مستوى عال جدا من الثبات على المواقف وإعلاء الصوت والإصرار إلى الأحقية بالجزم، وكذا بالقول والفتوى.. هذا الجهل المقدس عينه.

ومن السمات الأخرى لهذه المرحلة، انتقال واسع عند الشباب، نحو وسائل الاتصال الحديثة، من «فيس بوك» و«تويتر»» والإنترنت. وكذلك اعتبارهم أن قراءة كلمة في «ويكيبيديا»، تكفيهم شر القتال، وتعوض عن قراءة الكتب والمقالات الرصينة، وحتى الصحف والمجلات. إن هذا أدى إلى بروز شرخ هائل، بين جيل منهمك لا يزال يتصفح الورق المطبوع، وجيل شاب لا يرى الثقافة إلا عبر الـ«آيباد». وأعتقد أن تحدينا الثاني بعد الجهل المقدس، هو تحدي وضع أمهات الكتب والفكر في متناول هذا الجيل، وإقناعه بأن نص الـ140 حرفا في «تويتر» لا يكفيه كي يكون قاعدة كافية لقراءة العالم وتلمس تحولاته.

وأما التحدي الثالث فهو مرتبط بسمة كبرى من الفكر المعاصر. وهو حلول الخبير مكان المثقف، بمعنى أن من جمع خبرة وافية في مجال مهني معين، يعد أن ذلك كاف لتعويضه عما يسمى بالثقافة العامة، والتي هي أساس النهوض المجتمعي الطويل الأمد. لذلك أرى أن الفكر المعاصر مهدد من قبل (النيو فقيه)، بسبب جهله، ومن قبل الشباب المكتفي بوسائل الاتصال ومن قبل الخبير المكتفي لعناصر المجال المهني الذي تدرب عليه. المثقف الجديد يجب أن يتجاوز هذه الأنماط الثلاثة نحو صياغة ثقافة عامة، يتحكم بها الشك بدل اليقين. ويتحكم بها المتراكم من الفكر بدلا من العام ومن التواصل، وتتحكم بها الثقافة العامة بدلا من القدرات المهنية.

* هل ترى أن ثمة نكوصا في الفكر العربي الذي رافق الانتفاضات العربية؟

– إن مجال الانتفاضات العربية الراهنة، لا يواكبه فكر يتناسب مع حجمها، ومع خطوطها ومع أهميتها. وهذا هو سبب تعبيري الدائم عن كونها انتفاضات لا ترقى بعد، إلى مستوى الثورات، لأني أرى الاحتقان الذي تفجره، وأرى المطالب التي ترفعها وأرى الاندفاع الذي يحمل الملايين من الشباب إلى شوارع المدن العربية وحتى ألمس ذلك الاستعداد للموت أحيانا، لكن لا بد من أرضية فكرية تصوغ وسائل وأهدافا يضعها هؤلاء المثقفون أمام أعين الجمهور.. وهكذا لا أرى فكرا عميقا مستقبليا يواكب هذه الانتفاضات أو يرقى إلى مستواها فيما حصل في الثورات الكبرى في العالم. هناك شعارات وأحيانا هذه الشعارات يغلب عليها الطابع الديني، ولكن التجربة عبر القرون وفي مختلف الديانات وفي الإسلام، ليست استثناء في هذا المجال، فهي مفيدة جدا في حملات التعبئة والدعوة والاستنهاض، ولكنها تصبح خاوية وغير فعالة عندما تصل النخب المثقفة وتتحول إلى حاكمة. وما ينفع في التعبئة ليس ما هو نافع في الحكم. وما يسمح بالاستنهاض لا يسمح بالضرورة بممارسة السلطة. لذلك نرى ارتباطا واضحا عند تلك الفئات التي تمكنت بعد طول مخاض من الانتقال من المعارضة إلى السلطة. إذ نجد لديها ارتباكا في ممارسة السلطة في عصرنا، والتي تتطلب، أصلا، قدرات وكفاءات ومعرفة ليست بالضرورة متوافرة عند حملة الشعارات السهلة والبسيطة.

* ما تنبؤاتك حول مستقبل المجتمعات العربية وفكرها؟

– لا أعتقد أن اللحظة العربية الراهنة، وصلت إلى نهاياتها، لا زمنيا ولا جغرافيا، ولا في هوية النخب البديلة التي رأيناها تظهر في السنتين الماضيتين. فبعد مرور عامين على حادثة سيدي بوزيد في تونس، لا أعتقد أن اللحظة العربية التي بدأت بتلك الحادثة، بلغت خواتيمها، وربما أنها لم تصل حتى إلى منتصف التاريخ أو منتصف الطريق. علينا بالصبر والتنبؤ والمواكبة للحظة تاريخية لم تنضج بعد، ولم تنتج بعد حالة جديدة من الاستقرار. ولم تعرفنا بعد على النخب الجديدة الحاكمة التي لديها صفة الاستمرار وليس صفة الظهور المفاجئ والعبور السريع. إن هذه اللحظة لم تصل إلى خاتمتها، وسنرى أنها لا تزال في خضم مخاضها، وأنها ليست مرحلة بلغت نهايتها.

* سيرة ذاتية

ولد الدكتور غسان سلامة، سنة 1951. وهو سياسي ومثقف لبناني. يعمل أستاذا للعلوم السياسية في جامعة السوربون. وكان قد تولى وزارة الثقافة اللبنانية من عام 2000 إلى 2003. وهو أحد أعضاء وفد الأمم المتحدة إلى العراق بعد الاحتلال الأميركي عام 2003. لديه مؤلفات متنوعة، بالفرنسية والعربية، منها: «المجتمع والدولة في المشرق العربي»، و«من الارتباك إلى الفعل». و«التحولات العالمية وآثارها العربية».

* دعم الصندوق لستة فنون

يدعم الصندوق العربي للثقافة والفنون، ستة حقول: الرسم والسينما والمسرح والموسيقى والرقص والباليه والأدب. كما يوفر منحا مالية تفي بأغراض التفرغ في مجال النقد الأدبي أو كتابة السيناريو، أو للمغنين الذين يريدون طبع أول أسطوانة، أو لرسام يريد إقامة أول معرض فني له. ومهمة الصندوق، اكتشاف المواهب ثم إطلاقها.. ولذلك يتسلم 2000 طلب سنوي، ولكن اللجنة تقدم المنح لنحو 100 منها، بحسب جودة العمل وأهميته في الثقافة العربية.

المصدر: صحيفة الشرق الأوسط