محمد الرميحي
محمد الرميحي
محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت

فصل جديد في العلاقات الدولية!

آراء

قد يوصف القرن الواحد والعشرون بكونه مختلفاً جذرياً في العلاقات الدولية عما سبقه طويلاً من قواعد معمول بها، من خلال ظاهرة سقوط الآيديولوجيا في التعامل بين الأمم، بعد أن اتصف القرن العشرون بصراع آيديولوجي محتدم، كان وقتها بين المعسكر الرأسمالي، والمعسكر الاشتراكي، الذي كانت تسعى قياداته في المكانين، لأن تفرض على العالم رؤيتها في العيش والحياة، مستخدمة كل الحيل المشروعة، وغير المشروعة. المعسكر الرأسمالي أعلى من أفكار مثل الحرية وحقوق الإنسان والكرامة الإنسانية واقتصاديات السوق، ولم يبخل في استخدام الدين أيضاً كرافعة من روافعه الكثيرة، وحتى الدخول في معترك الحروب والانقلابات، كما تبنى المعسكر الاشتراكي المساواة وحقوق العمال والاستقلال الوطني والسوق الاشتراكية كرافعة مضادة، مع الإشارة إلى مثالب استخدام الدين في السياسة لتمرير الاضطهاد. واستخدم هذا المعسكر أيضاً عدداً من الأدوات تشابه تلك الأدوات التي استخدمها المعسكر الآخر، ولكن لأغراض أخرى. 

تلك المعركة وصلت إلى نهايتها مع نهاية القرن العشرين، ثم بدأت مرحلة جديدة، هي مرحلة الخروج من الدوائر المغلقة، يمكن أن تعرف أنها مرحلة «المساومة». اليوم «المساومة» تحقِق على أكثر من صعيد، وفي أكثر من ركن من العالم، نتائج غير متوقعة، دون النظر للمبادئ والمثاليات، التي كان المعسكران المتنافسان يدعيانها في السابق. لو أخذنا مسطرة «سقوط الآيديولوجيا وصعود المساومة» وطبقناها على الكثير مما نشهد من أحداث حولنا لاتضحت الصورة أكثر.

في وسط هذا الأسبوع سوف يشد العالم الأنظار إلى سنغافورة لمتابعة لقاء الرئيس الأميركي بزعيم كوريا الشمالية، وهو لقاء تاريخي، إلا أن عمود اللقاء، هو ليس حل الاختلاف الآيديولوجي، أو انتصار واحد على آخر، بل الوصول إلى مساومة في تحجيم القدرة النووية من جهة، وتأكيد سلامة النظام الكوري الشمالي (كما هو) من جهة أخرى، تحت قيادة سلالة ديكتاتورية، تحمل هي أيضاً تناقضاتها، بصرف النظر من الجانب الأميركي عن «حقوق الإنسان والديمقراطية وحق العيش الكريم والحر والسوق الحرة» التي كانت شعارات المرحلة السابقة، وبصرف النظر من الجانب الكوري الشمالي عن حقوق العمال والمساواة وحرب «الإمبريالية» الظالمة والسوق الاشتراكية. بكلمة أخرى افعلوا ما تشاءون في أموركم الداخلية، واقصروا قدرتكم على إيذائنا المحتمل فقط. تلك الفكرة المتبادلة هي نقلة نوعية في العلاقات الدولية.

من منظور آخر فإن موقف أوروبا الغربية تجاه إيران يشي بالمصفوفة السياسية نفسها، ويصب في الاتجاه نفسه (المساومة)، فأوروبا ليست معنية بالتقدم في تطوير إنتاج الصواريخ الإيرانية العابرة، ولا بالتمدد الإيراني في الجوار، ولا حتى بحقوق الإيرانيين الطبيعية في الحرية، ذلك أمر محلي، هي معنية بإنقاذ اتفاق جلب لها سوقاً تحتاج إليها، ومكاناً للاستثمار المربح يساعد على فك جزئي من ضائقتها التسويقية، ويفك بعضاً من أزمتها الاقتصادية، أما أن تحصل إيران في وقت ما على القدرة النووية، فذلك أمر آخر لزمن آخر!

هنا تبرز تقدم آلية المساومة، وتختفي مبدئية الآيديولوجيا، حيث ترى أوروبا أمام عينها كيف يتعامل النظام الإيراني مع مواطنيه بالكثير من القمع والاضطهاد، ومع جواره بالتمدد غير السوي المتبوع بالقهر، ونصرة أنظمة وميليشيات ضد رغبة أغلبية شعوبها! ولا يضيرها في ذلك شيء! إيران ليست بعيداً عن المساومة، الشعارات التي تطلق هي للعوام والسذج، فقد دخلت في مساومة مع إسرائيل من خلال أطراف أخرى هي روسيا الاتحادية، فبعد شعارات الموت والفناء، وشعارات المقاومة، اتجهت من خلف أبواب مغلقة للمساومة، في الابتعاد عن الوجود العسكري في الجوار الإسرائيلي، ومنع حلفائها من القيام بتوجيه طلقة إلى الحدود الإسرائيلية الداخلية، فقط ذر الرماد في عيون العوام، من خلال إطلاق بضعة صواريخ على الجولان، بعد أن تم توجيه ضربات موجعة لتجمعاتها في سوريا، هي أيضاً تتجه إلى المساومة والتخلي عن الآيديولوجيا، بصرف النظر عما نسمع من ضجيج عالٍ من المناصرين.

تركيا التي تستخدم أيضاً الآيديولوجيا في مكان ما، من أجل دفع مصالحها وتزينها للعوام، تذهب ذلك المسار (المساومة) فبعد صراخ سياسي واحتجاج على الولايات المتحدة بسبب نقل سفارتها إلى القدس، وسحب السفير التركي من واشنطن (للتشاور) احتجاجاً، يعود السفير من جديد، ولن يكون من المستغرب أو المفاجئ أن يعود السفير التركي إلى تل أبيب في وقت ليس بعيداً، حيث تشهد العلاقات الاقتصادية نمواً غير مسبوق بين البلدين.

العلاقات الدولية تخلع ملابسها القديمة وتتزين بملابس جديدة مختلفة جرى تصميمها في المصالح التي يراد تحقيقها، وليس في الأفكار التي يرغب البعض في ترويجها. لم يعد المعسكر الشرقي «شرقياً» بالمعنى القديم، فهذه روسيا الاتحادية رأسمالية الطابع، أكثر من الرأسماليين، وتلك الصين تحقق نمواً اقتصادياً غير مسبوق، حتى في العالم الرأسمالي القديم.

علامة القرن الواحد والعشرين هي ارتفاع نسبة المصالح والمساومات وانخفاض نسبة الآيديولوجيا، حتى أوروبا الموحدة تشهد ذلك المسار في صعود قوى بعدد من البلدان تقاوم فكرة آيديولوجية هي «الاتحاد الأوروبي»، وتسعى للانفكاك من قيوده ومحاذيره وارتباطاته، بدأتها بريطانيا، ولكنها لن تكون الأخيرة!

الفرق أن بعضاً من شرقنا العربي المنكوب ما زال خلف سراب «الآيديولوجيا المشوهة»، فذلك المجموع من اليمنيين الذين يسمون أنفسهم «أنصار الله» هم عينة من الآيديولوجيا المشوهة التي تحاول أن تعيد عجلة التاريخ إلى الخلف. إنها محاولة كتب عليها البؤس، مهما لبست من شعارات، فالحكم الإمامي (الآيديولوجي) لم يعد يناسب العصر، أو قادراً على حل مشكلات الشعوب في القرن الواحد والعشرين، إنه احتجاز النفس في دوائر مغلقة بالإيهام بالمطلق والنهائي السرمدي، مثل ذلك ليس له مستقبل، وحتى إن كان له ماضٍ! مثل حركة الحوثيين في اليمن كمثل حزب الله في لبنان، الذي يعرف الجميع أن طريقه إلى «حرب تحرير» هي طريق مسدودة بالكثير من العوائق، أهمها المساومة الإيرانية الغربية، كل ما يستطيع أن يفعله هو أخذ جموع اللبنانيين رهينة سلاحه، الذي سوف يبدأ بالتقلص، نتيجة المساومة الإيرانية مع الغرب، أما تيار «الإخوان المسلمين» المسيس الذي هو أيضاً يتشبث بآيديولوجيا الإسلام السياسي، المرتكز على آيديولوجيا «الخلافة والصحوة»، الذي أفرز الكثير من حركات التشدد، بل وجماعات الإرهاب الأسود، وقصَّرَت قيادات الجماعة، على الرغم من كل النكبات السياسية التي واجهته، في القيام بمراجعة حصيفة للمسيرة والمسار، بل ظل كثير من منتسبيها في تلك الدائرة المغلقة من التمني، وفي بعض الأوقات الأوهام المعلقة على الخرافة! لا تقرأ ولا تريد أن تقرأ التحول العالمي في العلاقات الدولية، واتخذ جناحها الفلسطيني «حماس»، مسار الانفصال والانتحار الذاتي بسبب ذلك القصور.

الدوائر العربية المعنية مطلوب منها أن تبحث عن مسارات جديدة للنظر في المشكلات التي تواجهها في العلاقات الدولية، بعيداً عن المسارات السابقة، فالخطيئة التي ترتكب، أن تقدم حلولاً قديمة لمشكلات مستجدة!

آخر الكلام: من الخبرة الإنسانية في العصر الحديث، حتى لو سدت الآيديولوجيا القاتمة بعض الحاجات الاجتماعية مثل الحشد والتجنيد وقمع الآخر، إلا أن ذلك مؤقت، ويتناقض على المدى المتوسط والطويل مع الحاجات الاقتصادية والسياسية للبشر.

المصدر: الشرق الأوسط