فى ذكرى ميلاد شاعر المرأة: «نزار».. كاشف الخبايا والأسرار

آراء

لم تستطع الفتاة التى لا تزيد على أربعة عشر عامًا أن تستسيغ ديوان أمير الشعراء «أحمد شوقي»، وشعرتْ بأن بينها وبين الديوان مساحاتٍ شاسعةً من الاغتراب، فهى غير معنية بكل هذا الشِّعر الذى قيل فى مناسبات شتَّى، مَلِك ومحتلِّين، حظوة ثم نفْى واتهام، أبيات تفخر، وتمجِّد، وتعارض عالَمًا بعيدًا عنها، تستعيد زمنًا غير زمنها فى الثمانينيات.

ومفردات جزْلة تواجه صعوبتها، وكان أن وقَع بين يدَيها الأعمالُ السياسية الكاملة لنزار قباني، بتوالى أجزائها، لتسأل ذاتَها ما كل هذا الجمال؟ كيف للشعر أن يلمسنا إلى هذا الحد، أن يقترب بنا حَدَّ التوحد، أن يمتعنا بصياغاته وجرأته ووضوحه، كيف له أن يصدمنا ويعرِّى الحقائق أمامنا بيُسر وجمال، يشير إلى الظلم الذى يقع على المرأة.

ويكشف الواقع السياسي، والاجتماعي، وعواطف الإنسان، المرأة والرجُل، وحالات كثيرة شتى بينهما، من أين وُهب هذا الشاعر القدرة على أن يعبِّر عنَّا، ويرينا ذواتنا، وخلل علاقات الواقع من حولنا، يبهرنا بتلك المفردات القريبة منا، ويضعها فى تراكيبَ بديعةٍ، وصور حية، لا نشعر معها بمسافات، أو صعوبات فى اللغة أو الأفكار أو الصور، مَن هذا الشاعر الذى يبوح ويواجه ويصدم؟، يستعير لسان ومشاعر المرأة؛ فنشعر كأنه يسكن بالغرفة الملاصقة تماما لقلوبنا!، وقد وُلد نزار -شاعر الحب والمرأة، والاشتباك مع الواقع السياسي.

والقدرة على الوصول إلى أكبر قطاع من الجماهير العربية- فى دمشق بسوريا، فى الحادى والعشرين من مارس عام ألف وتسعمائة وثلاثة وعشرين، وفى هذا اليوم حظيت مسيرة الشِّعر العربى بإبداعات نزار قباني؛ إبداعاته الحداثية، لكن على نحو خاص، فقد حرَّر نفْسه من القيود الشعرية الموروثة الراسخة، وانطلق ليقدِّم أفضل ما لديه، ملتصقًا بالجماهير وهمومهم ومشاعرهم دون تعالٍ، تنازَع النقاد والشعراء فى النصف الثانى من القرن العشرين نزار قباني.

واحتاروا كيف يصنفونه، فهو الشاعر المخملي، أو شاعر الجماهير الغوغاء، أو شاعر البرجوازية المتخمة بالغرائز الشهوانية، لكنه لم يكن يبالي، حيث قدَّم حداثته الشعرية النزارية، التى أعتقد أنها اختلفت عن الحداثة الشعرية بخلفياتها النظرية، ومرجعياتها الغربية، سواء عند أدونيس ومن سار فى فلكه، أو جماعة إضاءة 77 أو أصوات، فبَعد اعتماد قالب النظام التفعيلى فى مرحلة أولى، ثم قالب قصيدة النثر فى مرحلة ثانية، ظهَر اتجاهان أساسيان على المشهد الشعرى العربى وقتها، تمثل الأول: فيما يُعرف بقصيدة الرؤية، التى تتحد مع التجربة الشعرية والوجدانية والمعرفية للشاعر.

والتى مثَّلتها جماعة شِعر، ثم جاءت قصيدة النثر حيث أسسَت لمعالم كتابة متحررة من كل الإيقاعات الملموسة الواضحة، هذا الاتجاه الذى استهدف خلْق تجربة الشاعر الخاصة للغاية مع الوجود.

ورغم عمق هذه التجربة واعتمادها على الموروث، والحداثة الغربية معًا منصهرين فى التجربة/ الحلم للشاعر؛فإنها تجربة تحتاج إلى جهد كبير فى التلقي، ونوعية خاصة من القراء المثقفين. هذا إن لم تفقد الأرضية تمامًا مع شرائحَ واسعةٍ من الجماهير، أما الاتجاه الثاني: فيربط بين القصيدة والقضايا الاجتماعية والقومية والتيارات الأيديولوجية فى زمن الشاعر، واستمر هذا الاتجاه حتى الثمانينات.

وكان من أبرز شعرائه: صلاح عبد الصبور، والسياب، وأمل دنقل وغيرهم. هذا الاتجاه الذى استهدف الخلْق الشعرى فى حالة اشتباكه من الواقع وقضاياه الوجودية والسياسية والاجتماعية، جسَّدت أشعار نزار قبانى نوعًا مختلفًا من الحداثة الشعرية، وحقق بمفرده صوتًا شعريًّا متميزًا». قال إنه لا يستمع كثيرًا إلى ذلك الصخب النظرى والدعوات الحداثية الرؤيوية أو الملتزمة، وكان أن ورَّط الحداثات الأخرى، ووضَعها فى مأزق الابتعاد عن الجماهير، رأى نزار أنهم تعاملوا مع الشعر والحداثة الشعرية بنوايا مسبَقة، وبمرجعيات وخلفيات مستوردة سلفًا، كان هناك مشروع نظرى وجملة مبادئ نظرية، هى التى تؤهِّل للدخول فى حمَّى الحداثة، فيجهد الشاعر نفْسه من أجل أن يصوغ نصوصًا وفْق تلك المشروعات والمبادئ الأولية. وهو ما أوجد مسافاتٍ شاسعةً بين القصيدة والجمهور، وخنق فيها الكثير من مكامن الحيوية والحرارة.

وهو ما انتبه إليه نزار بطريقة تلقائية، لم تخلُ تجربة نزار من الثقافة الأدبية واللغوية والتاريخية رفيعة المستوى، لكنه حرَّر تجربته الشعرية من الأفكار الجامدة، من الموالاة للسلطة، من التعبيرات والتكوينات الاستعارية والمجازية، التى تداوَلها الشعراء كثيرًا؛ فكانت نصوص نزار الشعرية عارية من التجارب، التى لا يمكن أن يفهم أبعادها كاملة سوى الشاعر الذى كتبها فقط، كانت تلقائية وحسية، وتصل دون جهد إلى القلب، تدخل فى إطار ما أسماه بعض النقاد بالسهل الممتنع، لكنه المبتكَر أيضًا، رفَض نزار تحديد مفهوم دقيق للحداثة؛ لأنه يعلم أن التنظير للأفق الشعرى سوف يبعد مسار الشعر عن الذوق العربى العام.

ويجعل من القصيدة، إما حلمًا شعريًّا سرياليًّا، أو ثرثرة أيديولوجية عقيمة، كان يؤمن بالحداثة التى تأخذ المتلقين معها، ويجدون فيها ذواتِهم وهمومَهم، لا الحداثة النخبوية، ضفَّر نزار قبانى تفاصيل الحياة اليومية بجُمله الشعرية، بأفكاره بحديثه عن المرأة والرجُل؛ مما جعل الشعر جذابًا. وتميزت تكويناته الأسلوبية بإدخال مفردات ومصطلحات جديدة لا تستعمل إلا نادرًا، وهذه المفردات أكسبَت شِعر نزار نوعًا من التفرد والتميز، وعبَّر نزار عن هذا الصدام قائلا :»دراويش اليوم يلبسون الملابس التقدمية.

ويرفعون كذبًا لافتات اليسار، ويستعملون تعابير الحداثة والتجاوز والواقعية الاشتراكية… هؤلاء الدراويش سينقرضون أيضًا… لأنهم حركة ضد العقل، وضد المدارك، وضد طبيعة الأشياء، وضد أنفسهم، إنهم منعزلون تمامًا عن العالَم الخارجي، وسابحون فى منطقة انعدام التوازن، ويتكلمون كأهل الكهف، لغة لا يفهمها أحد، ولأنهم محاصرون وفى حالة استلاب كامل، لأن عملتهم الشعرية غير صالحة للتداول؛ فإنهم يطلقون النار على الشمس، لأن الشمس هى فضيحتهم». كان نزار يستهدف حداثة تستطيع أن تضيء، أن تشعل دم الجماهير، أن تحرضها».

ولقد حملت أشعاره مجموعة كبيرة من القِيم والأخلاق العليا، التى ترتقى بفكر الإنسان، وتسمو به نحو الرقي، والفهم للحياة والواقع من حوله، استخدم نزار اللغة الثالثة أو الوسطى، حيث ضمان التواصل مع الجماهير؛ لأنها بين العربية الفصحى والعامية. لم تقُم بنية أشعار نزار على الخيال، الذى يشط لعوالمَ مركَّبةٍ من الأفكار والموروثات والسرديات، وإعادة تشكيلها على نحو سريالي، هذا الخيال الذى يشق على الكثيرين، بل كانت تشمل جزءًا كبيرًا من الواقعية، وجزءًا من الخيال غير المعقَّد ولا المتراكب، واتَّسم شِعر نزار بالصدق، والشجاعة، والحسم فى الاختيارات والقيم، فى قول الحق ومواجهة الفساد أو التراخى العربي، لم يكن يخاف من آثار كلمته طالما وجَّهها إلى الجماهير العريضة؛ ولذا اكتسب اهتمام العديد من القراء والمتلقين، لصدقه وتجرُّد أفكاره ومبادئه.

فأحد معايير عظمة الشاعر وبقاء إبداعه يقرره الوجدان العام، من يشعرون بأنه قد تجاوب مع أرواحهم، حلم مثلهم، وتمنَّى وطنًا حرًّا، يعلى كرامة مواطنه، ويعدل بينهم، دافَع عن وجودهم وحرياتهم، وصَل إلى قلوبهم، وخاض فى المسكوت عنه بدرجة رفيعة من الرقي، وتمثلت أيضًا حداثة نزار فى اقتحام قصائده للمحظور والمسكوت عنه داخل المجتمع والوجدان العربي؛ فقد اتخذ المرأة محورًا وموضوعًا لشعره، بطريقة حديثة ومغايرة للأساليب والرؤى والأنماط، التى تعامَل بها الشعراء السابقون، اخترق جسد المرأة ومشاعرها اختراقًا جريئًا، وتناوَل العلاقة بين المرأة والرجُل بأشكال وفى حالات متعددة، الريادة أنه تناول هذا فى الأربعينيات.

وأكد نزار ربْط التجربة الشعرية الحداثية بالتراث ربطًا فكريًّا، ينسجم مع روح التراث، من خلال إدراك الوعى الجمالى والثقافى والفكرى فيه، وليس اجتراره، والعمل على تمثُّله فى الشكل والمضمون؛ يقول: «من قال إننى أكتب القصيدة وحدي؟ أشعر بأن عشرة آلاف شاعر يكتبونها معي، من طرفة إلى الحطيئة إلى أبى تمام إلى المتنبى وشوقي.

الشاعر الذى ينسجم مع روح التراث ويتمثله؛ يتجه رأسًا إلى وجدان القارئ العربي. أما الشاعر الذى يعتمد على الصراعات والبدع المستوردة؛ فإنه يسمم الجمهور… هذا الشعر يرفضه القراء»، ويؤكد د. صلاح فضل ود. نجيب العوفى على الحسية فى كتابات نزار.

وهى امتداد لتلك اليقظة الرومانسية، ودعوة للاعتراف بالجسد الإنسانى كآلية من آليات الوعى فى القرن العشرين، وتحديث الحساسية الجمالية له، ومواجهة المحرَّمات المتراكِمة فيه. فهى بذلك تجربة ثورية إنسانية إلى حد كبير، تقاوم الحس الخلُقى المزدوج بين السر والعلانية فى عالمنا العربي، لتضفى عليه قدرًا من التماسك».

ولقد وجد المطربون فى أشعار نزار ضالتهم، اختياره لموضوعات عاطفية حيوية، تلتصق بالجماهير وتهبهم بكارة التراكيب والصور والمفردات، فى أبيات ذات إيقاعات سلسة تعامَل معها الملحنون بأفضل النغمات، فشدت له السيدة كوكب الشرق أم كلثوم، عبدالوهاب، عبدالحليم حافظ، ونجاة الصغيرة وماجدة الرومى وكاظم الساهر وأصالة، ترك نزار خمسة وثلاثين ديوانا من الدواوين الشعرية، كتبها فى فترة من الزمن تزيد على أربعين عامًا، ومن أهم هذه الدواوين «الرسم بكلمات، أنت لي، سامبا، وطفولة نهد».

وكان أول ديوان شعرى له عام 1944 تحت عنوان «قالت لى السمراء».

ومن أهم كتبه النثرية «مائة رسالة حب، ما هو الشعر، قصتى مع الشعر»، وقام بتأسيس دار لنشر أعماله فى بيروت تسمى «منشورات نزار قباني».

المصدر: أخبار اليوم