قراءة في رواية «هياء» لزينب الخضيري

منوعات

يعرفان بعضهما جيداً لذلك لديهما شيء مختلف، يريد أحدهما أن يسأل الآخر عنه، أو أن يكتب عن أحد أعماله وهنا نفتح النوافذ لهما في إطلالات خاصة تشرع منها الأخيلة لتأملات جديدة.. أحاديث صادقة منبعها قلبان يتوشحان البياض لتلخص للقراء حكاية علاقة إنسانية. هنا حوار قلبين.. مساحة حرة خارج سلطة المحرر 

«هياء» الرواية الأولى لزينب الخضيري بعد عدة أعمال نثرية وقصصية.. رواية تقعيرية نسجتها من حكايات الأمس باليوم.. لتقدم للقارئ مجتمع شرق الجزيرة ووسطها وحتى غربها تحكي حيوات عدة أجيال.

بدايةً بالغلاف الذي سيطر عليه لون البن المحمص.. ليحتل عمقه باب قديم من الخشب منفرج على عمود طيني يفضي إلى شارع ترابي.. مستهلك تطل عليه من الجهة المقابلة نافذة أو باب من جدار أبيض.. منظر يبعث على التساؤل.. إضافة إلى عنوانها الذي يزيدها إبهاماً.

هياء ليست الرواية السعودية الأولى التي تغوص في ماضي المجتمع.. بهدف استجلاء هويته التي يُعرف بها اليوم.. والمسار الذي خرج من خلاله من حياة بداوة الصحراء إلى ما هو عليه اليوم. فقد سبقت عدة أعمال لعبده خال ويوسف المحيميد ورجاء عالم وعبدالعزيز الصقعبي وغيرهم. إلا أن ما يميز هذه الرواية الاتكاء على الحكائية المتعددة.. من خلال أصوات أجيال مختلفة تلون تلك الانساق. فشيخة صوت جيل والدها ما قبل البترول.. وفي الوقت نفسه صوت صباها وحتى بداية النهضة.. وهياء وجمال صوت الجيل المعاصر.

الخضيري لم تكتفِ بتسليط الضوء على تلك الأجيال، بل جمعت تلك الحكايات بداية من وسط ريفي يعتمد على التكافل والتعاون.. إلى تفرع حكائي يمتد من شرق الجزيرة وحتى وسطها وغربها. وكأنها تحكي مسيرة موحد الجزيرة. مركزة على تعدد الشخصيات لثلاثة أجيال.. من الجدات.. إلى الأمهات والآباء: إلى الأحفاد.. وبين تلك الأجيال تباين ومفارقات تذهب الكاتبة بالمتلقي ليتعرف على أبوة الجيل الحاضر وظروف الحياة وصعوبتها التي ولد منها وعرف اليوم للعالم.. والمتغيرات التي أحدثتها الطفرة البترولية في أنماط الحياة إلى مفاهيم العلاقات الاجتماعية.. وكذلك أثر عقود النهضة في التحول الثقافي والمعرفي.. وانصهار الشتات بين إنسان الصحراء والوديان والجبال والسواحل والانتقال من حيواتهم التقليدية إلى قيم أكثر انفتاحاً وتحرراً. مثلتها تلك الشخصية المحورية «هياء» التي بدأت كراوية لأحداث الرواية ثم من خلالها تتعدد الأصوات لتبحر بالمتلقي إلى طفولة والدتها وسنوات الفقر.. في ريف منعزل، حيث عاشت طفولتها في كنف والدها بعد موت أمها وزواجه من لولوة لتشب وأختيها موضي ونورة في بيئة ريفية.. تصف تلك الحياة بقلب الباحث عن الحنان بعد رحيل الأم وقسوة زوجة الأب.. لتنسال الذكريات الممزوجة بالحرمان والوحدة.. وتتعدد التيمات من فقد ويتم وبحث عن حب وحنان…

تتذكر شيخة طفولة القرية.. زواج شقيقتها نورة وانتقالها إلى الطائف لتتوفى بعد فترة أثناء ولادة متعسرة.. زواجها من عبد العزيز الذي يتوفى مخلفاً طفلة هي هياء.. وتتذكر انتقالها ووالدها من القرية إلى المدينة وبنتها التي عاشت لها دون أن تلتفت لمن أتوا طالبين الزواج منها.. تتذكر وقد طعمت حكاياتها بأبيات شعرية تخرجها بصوت مغنى شجي لتضفي على حكاياتها شجناً تشعر به قلب ابنتها.. ومن صوتي هياء ووالداتها شيخة.. تنتقل بنا الكاتبة إلى صوت جمال الذي يحكي معاناته أثناء سفره لإكمال تعليمه الجامعي في الولايات المتحدة الأمريكية.. جمال الذي بدت حكاياته جزيرة معزولة.. لنكتشف مع قرب نهاية الرواية أنه أخ لهياء من أم مصرية.. تزوجها والدها في إحدى رحلاته.. ثم يموت بعد عودته.. وتتوفى أم جمال لتكفله جدته التي لم تعرف إلى والده طريق.. حتى جاءت صدفة غريبة أقرب إلى المعجزة. وهكذا من راوٍ إلى آخر تتعدد الأصوات لتضيف مرونة وتشويقاً حتى آخر سطر.

لنجد في هياء أصوات الرواة تتقاطع.. والحوارات ليست كحوارات ألفناها مكثفة ومختصرة.. فكل متحدث يحتل مساحة تتجاوز بعضها الصفحة والصفحتين.. ليتخلل حديثه حكايات عن حياته.. معرجاً على حكايات شخصيات صاحبت حياته.. مثل الأمريكية روزالين التي أسكنت جمال في منزلها أثناء دراسته.. والممرضة منيرة صديقة هياء…

وبقدر ما لموضوع الرواية وتيماتها من أهمية إلا أن ما لفت انتباهي.. هو أسلوب الكاتبة بانتقالها المتكرر من مكان إلى آخر.. ومن تلك الأمكنة ريف المناطق الوسطى.. الطائف.. نيو يورك.. الرياض.. ومن راوٍ إلى آخر.. ومن شخصية إلى أخرى وقد توالدت حكايتهم.. حكاية داخل رواية.. بداية بهياء لتتبرعم ذكريات شيخة وبداخل حكاياتها حكايات وحكايات تنقل القارئ من زمن ما قبل الطفرة البترولية.. إلى طفرته وأثر ذلك في حياة الناس من خلال انتقال شيخة ووالدها إلى المدينة.. نهاية بالنهضة الشاملة مع الجيل الجديد.. وبذلك تجترح الكاتبة في أولى أعمالها الروائية نوعاً من التجريب.. محاولة كسر المألوف في توالد الحكايات وتداخل الرواة.. خاصة حين تتماهى حدود الراوي العليم والراوي المشارك. وهنا تبدو تلك التداخلات أن ذلك الأسلوب عشوائي.. وغير مقصود من قبل الكاتبة.. إلا أن المتلقي لا يلبث أن يلحظ أن تلك التقاطعات والنقلات قد انتظم إيقاعها.. ما يزيد لدى القارئ التشويق ليتابع تلك الحكايات المتداخلة بنهم متزايد.. مدركاً قدرات الكاتبة على نسج حكاياتها في حبكات محكمة.. أو بالأصح رسمتها في لوحات متجاورة مكونة لوحة جدارية من الحكايات تصور مجتمع المملكة لعدة عقود تخللتها ثلاثة أجيال.

ملاحظة ثانية.. حول شخصيات هياء.. وقد صاغت لغتها بما يناسب وعيها.. فشيخة نجدها بلغة مختلفة عن سرد جمال أو هياء.. والأمريكية روزا وقد بدت بثقافة مختلفة.. وكذلك اختلاف لغة الممرضة منيرة.. وهكذا بقية الأصوات. ومن خلال تلك الشخصيات يتعرف القارئ على ماضي مجتمع لا يشبه واقعه المعاصر.. إلا من حيث بعض التفاصيل الصغيرة.

وملاحظة أخيرة.. تتلخص في المساحة التي أفردتها الكاتبة للشخصيات النسوية.. بتعددها واختلاف تكويناتها.. بل إنهن أكثر الشخصيات إيجابية وكأن بالكاتبة توحي بأن جيل اليوم ما هو إلا من صنع المرأة.. فشيخة هي من صنعت هياء.. بحرصها على تعليمها رغم الظروف القاسية من حرمان ويتم.. وجمال نتيجة لتربية جدته التي وهبت نفسها لرعايته وتعليمه حتى تخرج في إحدى الجامعات الأمريكية.

هياء الشخصية المحورية الأكثر تحرراً وانفتاحاً.. وهي ما ترمز إلى الجيل المعاصر.. من تمرد وإصرار على التغيير إلى حياة أفضل.

المصدر: اليمامة