كان الحاجُJohn Philby جارَنا بمكة!

آراء

خاص لـ هات بوست: 

كان فـِلبي HSJ Philby ساكناً في الدار المجاورة لصيقاً لدار جدي لأبي (بكر) في حارة الهِنداوية، في مكة المكرمة، و و رغم التوسعات و الهدميات، لا يزال الدار قائماً حاليّا، و يسكنه احد الأحفاد، سامي، إبن عمي أمين.

كان دار جدي غير بعيد عن منطقة ‘الشـُّهدا’ التي لم تبعد عن منطقة (البـِـيبان).. بابا مكة الرئيسيان و كانا مكونين من عقدين كبيرين، احدهما يُولج من خلاله الى مكة من جهة حي الزاهر ثم الهنداوية و التيسير فحارة جـَروَل المُوصلة الى حارة الباب باتجاه المسجد الحرام. أمّا ‘الباب’ الآخر فكان للخروج من مكة صوب جدة.

و كان مسكنُ المستر فِلبي ذاك في دار العم اسماعيل دَهلوي الذي كانت له بالبيت جارية حبشية تأتي من جهة الحوش الأعلى لكل من الدارين لتناول الشاي (شاهي العَصُر) عند جدتي (مريم صالح ناغي).

(وُجدت تلك الجارية ذات يوم ميتة في حمّامٍ في دلك البيت؛ و كنت افكّرو انا في ذلك السن انها كانت أختاً او قريبة لمملوكة جد أبي (عبدالقادر محمد نــَـتــّو)، ‘الدادَة’ حسينة، التي -بعد عِتقها-انتقلت فعاشت في بيت القطان؛ او أني -فكـّرتُ- انها ربما كانت قريبة لزميلها المملوك، ‘دادِي’ سرور.)

و بعد بيت الدهلوي كان بيت الكشغري على اليمين -و على طرف جدارهم كان صنبور عام كنت اساعد جـَدي بجلب بعض الماء لبعض الاستعمالات مثل إبريق الوضوء، و لسقيا شجرة ‘نيم’ كان يحرص عليها في جانب من الحوش الأمامي.

و على الجانب الآخر من الشارع كان (گراج) شركة عبدالعزيز كعكي لسيارات النقل و الاتوبيسات..

(كانت ‘جـَراج’ هي تهجئة الكلمة على لوحة مثبتة على بوابة ذلك الگراج؛ و استغربت تلك التهجئة، وقتها و منذها!)

اتصور ان سِني كان في حدود السابعة؛ و حدث ان كنت العب في الحوش الأسفل لدار جدي، حيث كان عدد من الدجاج، و عنزة و تيس و حمَلان لهما، إضافة إلى حمار لجدي و حصان لعمي (أمين، الأخ الأكبر و الوحيد لوالدي).

و كأنّي سمعتُ ذات ضُحى صوتاً غريباً كان يتعالى من خلف الجدار الواصل.الفاصل بين الدارين؛ و كان فعلاً صوتاً غير اعتيادي عليّ؛ فقد كان حديثا بالانگليزية على مذياع (جهاز راديو)؛ و كان ذلك الراديو مثبـّتاً على سيارة الجار المستر (الحاج عبدالله) فِلبي. و اسمه الحقيقي: HSJ Philby.

عند بلوغي حوالي سن الأربعين و بعد اطلاعي على عدد من كتبه، عرفت كامل اسمه:

Harry Saint-John PHILBY؛

حيث (هاري) يطابق اسم الولد الثاني لچارلز، ولي عهد بريطانيا؛ و سينت.جان يعني القديس يوحنا.

و إضافة إلى كتبه فلقد كان كاتباً مراسلاً لعدد من الصحف و المجلات و الدوريات.

يبدو أنّ ما كان ينصت اليه السيد فِلبي كانت نشرة الأخبار على محطة الإذاعة البريطانية BBC.

و دفعني فضول الطفولة لتتبع مصدر ذلك الصوت الغريب بجوارنا في حوش/فناء دار جارنا العم اسماعيل دَهلوي، ما دفعني لتسلق جدارنا المشترك؛ و اذا بي اشاهد المستر فـِلبي بينما كان يصغىَ الى نشرة الأخبار. و لكني سرعان ما نزلتُ من على الجدار، نتيجة خوفٍ طفوليٍ من ان أُكتَشف و انا مُطلٌ من فوق جدارنا على حوش جارنا.

و اذكرُ ان السيد فـِلبي كان ينصت واقفاً امام باب سيارته الجيب (لعلها عسكرية و من ماركة فورد، التي علمت ..في سِني مشيبي- أنه كان قد حصل هو على إمتياز وكالتها في عموم المملكة (ثم آلت الى بيت التجارة الشهير بجدة: شركة عبدالله علي-رضا).

كان المستر فـِلبي ينصت لمذياع السيارة بينما مقدمة السيارة نحو مسكنه، و هو فاتح بابها الأمامي الأيمن تجاه دارنا، و من خلاله كان يصلني الصوت.

(كان اقتناء المذياع/جهاز الراديو احد الكماليات البارزة في بيوت مكة في تلك الأيام.. و بما يشبه اقتناء التلڤاز الفاخر في أيامنا الحاضرة، و كان يعمل على بطارية ذات عدة ‘عيون’ يتم تعبئتها بسائل كيماوي (موية النار) و شحنها بصفة دورية في مثل طاحونة حسن گـِرِملي بحارة الشبيكة. و كان كثير من الناس بمكة و ما حولها يتابعون إذاعة ‘هنا مكة’، بينما كان جـُلّ المثقفين يحرصون أيضاً على الانصات الى إذاعة ‘هنا لندن’ على ‘الموجة القصيرة’ في تمام الساعة التاسعة و ٤٥ دقيقة ليلياً، حين موعد بث نشرة الاخبار باللغة العربية (و كان، سمو الأمير فيصل، جلالة الملك فيما بعد، من أولئك المتابعين الحريصين!

و يبدو ان المستر فـِلبي كان يميل الى استعمال مذياع سيارته، فلعله كان أقوَم، و بطاريته أدوَم!

حين رأيت المستر فِلبي اثناء استماعه الى إذاعة بي.بي.سي كان لابساً ثوباً و معطفاً و شماغاً أسوداً و عقالاً. و اتصور ان كان ذلك في فترة ضُحى او ظهيرة.. (و في يوم جمعة فقد كان جدي يأخذني الى داره لقضاء (عطلة نهاية الأسبوع) التي كانت على أيامنا ليوم و نصف بالنسبة للدوام المدرسي (يوم الجمعة و نصف الخميس، بينما كان الخميس يوم عمل كامل في عموم المجتمع).

و لعل المستر فـِلبي كان يتهيؤ للخروج إمّا الى القصر الملكي (فلقد كان مستشاراً لجلالة الملك عبدالعزيز، و استمرت مستشاريته في الديوان الملكي حتى اوائل عهد جلالة الملك سعود الذي قام بعزله بُعيدَ توليه منصبه)؛

أو انه كان متجهاً إلى صلاة الجمعة بالمسجد الحرام (تبنىّ المستر فـِلبي اسم ‘عبدالله’ بعد أن أعلن إسلامه)؛

او أنه كان سيتجه صوب الثكنة العسكرية (القـَشلة، كلمة تركية= الثكنة العسكرية/كِشلاك)، و كانت قريبة مِنا؛ و كانت للسيد فـِلبي رتبة عسكرية بالجيش البريطاني.

و بعد لحظات مشاهدتي جارنا في حوش الدار الملاصقة لدارنا، سرعانَ ما نزلتُ من على ذلك الجدار؛ و أسررت ما شاهدت الى حين لاقيت جَدي.. و أخبرته بما رأيت و سمعت، فقال لي إنه جارنا الخواجة فـِلبي Philby.

*د.إبراهيم عباس نــَتــّو

عميد سابق بجامعة البترول