ناصر الظاهري
ناصر الظاهري
كاتب إماراتي

كان حبره أسود.. فكيف يرسم قوس قزح؟

آراء

فقط أسبوع بين تكريمه في معهد العالم العربي بباريس، والذي جاءه رغم اشتداد مرضه، ونصائح طبيبه، على كرسي مدولب، تدفعه أم ريّا، كأي امرأة صابرة من بغداد، ورحيله مختتماً الثمانين، عافّاً عن قول زهير ابن أبي سلمى من يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم، فقد كان محبّاً للحياة، ودوداً لألوانها، عشق الحرف، فعرف النور والتجلي، استهوته الكلمات، فأدرك معنى الكلم، وما يسطرون، هو شاعر، وأديب، وخطاط، ورسام، مترادفات ليست متفرقة، إنما هي تشكيل حروفي ولوني، لا يمكن أن ينبئك إلا أنه الصكّار، والصكّار وحده، سأفتقد ذلك الحضور للظل البارد الذي يرافقك كلما ضمتنا أمكنة في باريس، سأفتقد تلك الأشعار، والخواطر الإخوانية، والتي تتعب أن تجدها في بطون الكتب، سأفتقد النكتة «الجاحظية» تلك التي تسربّها طرقات البصرة، وحوانيت بغداد، سأفتقد ذاك المتيم في الحياة، والذي قال لطبيبه الفرنسي مرة: إن أغلقت عليّ باباً، سأجد شبّاكاً لأتنفس، فرقّ له الطبيب، وقال له: مثلك من يوعظ الأطباء لكي يغتنموا الحياة، سأفتقد ذاك الوجه الشائخ مثل بشرة طفل لا يكبر، ويداً برقة مسلك الحرير، وإن صافحتك برجفة العمر، غير أنها الدفء والإخلاص، ولم تعرف الخنجر، سأفتقد تلك الرائحة من مسك عربي يحضر قبله، ويبقى في المكان، وفي الذاكرة بعده، سأفتقد بحق إنساناً عاش، ومات، ولم يعرف الأذى!

الصكّار.. رحل، ولتكتفي بغداد بالتأبين، ولطم الصدور لعظمائها، وأجلاّئها في المنافي الباردة، رحل أبو ريّا، وإن كان في القلب أسى من بغداد ولبغداد، لكنه أحب فرنسا كجنة من برزخ، أهدته بدل القلم، عشرة أقلام ومحبرة، وبدل السفر على جُنح الضاد في حدودها المعطلة، منحته الأفق والغمام، ومرسما إن تعب وعاد، ومعنى أن يكون الاحترام، يبكي الحلاّج، ويبكي نفسه، حينما يتذكر أيام محنة «أبجدية الصكّار» التي ابتكرها لتعزيز العربية، وتطويعها للتقانة، لكن المسؤول العربي، وما يمكن أن يفعله لشيء لا ينسب إليه، فكان خلاف الأصدقاء طارق عزيز – المسؤول- والصكّار – المبتكر-، وبداية رحلة المنافي والاختيارات، وتلك الأوجاع التي تذّكرك بالوطن دوماً وأبدا!

ضمتنا وأبو ريّا مدن: كباريس ولندن وبيروت وأبوظبي، وأخرى، وأماكن كثر، تحلّق حولنا أصدقاء عابرون، وباقون، كانت جلسات من معرفة، حين لا يخدش المعرفة شيء، وكانت الضحكات تتالي الضحكات، حين يمدح العنب والعنب، ويمتدح القمر، وحين نرعف نساء من وقت وتعب وسفر، كان الصكّار يشرق بتلك الضحكة المتبوعة بسعلة من تبغ، فيدفئ بمعطفه صدره وجسده الهزيل كقصبة من خيزران، ويعود يتذكر.. ويتذكر، كانت آخر جلسة ضمتنا قبل عام، وأكثر، في مطعم باريسي مع عماد الدين أديب، ونجم عبدالكريم، وكان الصكّار يومها متجليّاً، ولا يحب شيئاً أكثر من الحياة!

المصدر: الاتحاد