ناصر الظاهري
ناصر الظاهري
كاتب إماراتي

كيف يترجم الإخلاص والوفاء؟

آراء

بعض الأحداث تكون آتية من مكان قصيّ، ولا تخصك من قريب ولا بعيد، لكنها تظل تعذبك بالأسئلة التي تقف خلفها، لأن الإنسان أحياناً لا يعرف أقاصي الإخلاص، ومدى عمقه، وما هو سقفه، أقول هذا، بعد أن قرأت قبل مدة طويلة لا أتذكرها، ولكن أتذكر الواقعة التي بقيت راسخة في الرأس عن إعدام نائب رئيس الوزراء في كوريا الشمالية، والإعدام في كوريا الشمالية ليس بخبر، خاصة أن الأخبار التي تظهر للعالم من هناك، إما متأخرة نتيجة السور الحديدي، أو لعدم وجود إعلام غير حكومي أو إعلام معارضة، وإمّا أحياناً هي أخبار مفبركة على الطريقة الأمريكية التي لا تعرف كيف تتعامل مع هذه الشوكة المزعجة في خاصرة سياساتها الخاسرة، وإمّا هي حقيقية، وواقعية توجع البعيد، ولا تعني شيئاً للقريب في كوريا الشمالية، لأن «بيونج يانج» تعيش الرعب وتصدره للعالم لكيلا يقترب أحد منها. إعدام نائب رئيس الوزراء، أو قائد الجيش أو عضو في الحكومة والحزب قد لا يكون أمراً جديداً على كوريا الشمالية، لكنه أحزنني شخصياً، ولا أزيد عليكم إذا ما قلت لكم: إنه يلّح عليّ باستمرار للكتابة عنه، لأنه لا يستحق تلك الخاتمة لرجل أخلص وبعمق منذ نعومة أظفاره، خاصة وأن الكل في كوريا الشمالية لابد وأن يكون مخلصاً للغاية، إما ولاءً أو خوفاً.

في كوريا الشمالية أن تصل لنائب رئيس الوزراء يحتاج منك أن تكون موالياً ومنتمياً وطائعاً دون مناقشة سنوات طويلة من عمرك، وهكذا خيّل إلي هذا العجوز الذي بلغ الثانية والسبعين، وما زال يعطي من أجل الرئيس، ثم كوريا منذ نعومة أظفاره، فقد انخرط حزبياً وتدرج كشبل، ثم طلائع ثم شبيبة حتى غدا عضواً متدرباً، ثم عاملاً في اتحاد الطلبة أو الجمعيات، ثم «كادراً» حزبياً مسؤولاً عن منطقة نائية إلى أن أكدت العاصمة ولاءه التام، والتزامه الحزبي، وأنه محصن ضد الإمبريالية والانفتاح على الغرب، طبعاً اشتغل في الجيش، وحارب على التخوم والثغور، وأُرسل في مهمات سرية، واقتضى الحال أن يستعمل السلاح أكثر من مرة في تصفية الخصوم السياسيين، أو من يسميهم الحزب «أعداء الأمة»، لكن كل تلك التضحيات الجمّة التي لا نعرف أكثرها، لم تشفع له حينما غفت عينه لدقائق، وأغمضت جفونه بفعل سِنة من النوم أجبرته عليها الشيخوخة، والفطور المبكر ذلك اليوم، والنوم المتقطع نتيجة التحفز لخطاب الرئيس القائد المنتظر، والذي ربما ظل يشاهد «ميكي ماوس» لوقت متأخر، وليس مراجعة الخطاب الموجّه للأمة، فالرئيس من المعجبين بكل لعب وبرامج الأطفال الأمريكية، كأي طفل لا يحب أن يكبر.

نام النائب، والنوم سلطان، لكن في حضرة خطاب القائد، يعني تهمة عدم الاحترام، وربما الخيانة العظمى، وهذه ثمنها الإعدام، يقال: لمحته عينا القائد أو أخبرته عيونه وهم كثر، فقال القائد: ما دام أغمض عينيه، فليغمضهما للأبد! ما أسوأ مساوئ الإخلاص بالخوف حد العمى، وعمق الوفاء بالكذب حد الدفن حياً!

المصدر: الاتحاد