محمد شحرور
محمد شحرور
مفكر إسلامي

“لا إله إلا الله”

آراء

خاص لـ هات بوست: 

نردد نحن “المسلمون” شهادة “لا إله إلا الله” عشرات المرات يومياً، وفي بال معظمنا أن الإقرار بهذه الشهادة أمر بديهي طالما أننا لا نؤمن بإله آخر سوى الله، ولا يساورنا أدنى شك بكوننا قد نحيد عن هذا الإيمان بشكل ما، سيما أن هذه الشهادة هي رأس الإسلام في التنزيل الحكيم، وهي كذلك في الثقافة الإسلامية الموروثة أيضاً، والحياد عنها يعني الانتقال إلى الشرك، وما يصحبه من تبعات، لا يرضى المسلم أن يوصم بها.

فالدعوة إلى التوحيد هي العامل المشترك بين جميع الرسالات، ابتداءً من الرسالة التي حملها نوح {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (المؤمنون 33) وانتهاءً برسالة محمد (ص) {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} (النساء 36)، وعدم الشرك بالله هو الوصية الأولى على سلم وصايا الصراط المستقيم {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} (الأنعام 151)، لكن المتتبع لمفهوم الشرك في التنزيل الحكيم يجد أنه لا يقتصر على تأليه غير الله، كعبادة الأصنام أو الأفراد من حكام وزعماء وأئمة وفقهاء، أو الاعتقاد بأن أحداً غير الله يمكنه أن يضر وينفع، أي ما نسميه “الشرك الظاهر” وهو “شرك الألوهية”، بل يتعدى ذلك إلى “شرك خفي” قد يقع فيه المرء دون سابق قصد، وهو “شرك الربوبية”، حيث الاعتقاد بثبات أي ظاهرة من ظواهر الطبيعة أو المجتمع يعني اعتبارها متكافئة مع الله بشكل أو بآخر، فكل ما في الكون متغير متبدل، ولا ثبات في الأشياء ولا المجتمعات ولا الصناعات ولا الأفكار، ولا شيء يبقى على حاله، والشرك هو لسان حال، لا لسان مقال، فلا أحد يقول عن نفسه أنه “مشرك”، ومن هنا نفهم نقاش الرجلين في سورة الكهف، حيث اعتقد أحدهما أن حديقته لن تزول أبداً فاعترض صاحبه {لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً}(الكهف 38)، حتى زالت الحديقة فأدرك المتكبر خطأه {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} (الكهف 42).

والإيمان بالثبات هو نكران للتطور والتغير، ومن ثم هو خضوع للتخلف والرجعية، ولذلك استنكر التنزيل الحكيم البقاء على نهج الآباء دون المضي قدماً {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (الزخرف 23)، واستهجن وفق هذا المفهوم تسلط الوالدين على الأبناء، واعتبر طاعتهما في هذه الحالة “شرك بالله” {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} (العنكبوت 8) وحسم صراع الأجيال لصالح الأبناء، على اعتبار أن الإنسانية تمشي إلى الأمام لا إلى الوراء.

ومن ثم يمكننا استيعاب وصف الله تعالى الشرك بإنه إثم، وأنه ظلم عظيم {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان 13)فالإنسان يظلم نفسه بالوقوع في وهم الثبات، وهذا ما يودي إلى التخلف عن ركب الحضارة، لا سيما إذا أصبح الثبات هو صفة للمجتمع ككل، فأصبح بالتالي على لون واحد، لا يقبل التمايز أو الاختلاف، ورفض كل ما هو غريب عنه، وانطبقت عليه صفة “القرية” من حيث البنية الاجتماعية، وليس الجغرافية، فالمجتمع يصبح قرية عندما يرفض الآخر المخالف له بالرأي ويطرده من المجتمع، ويطغى عليه الفكر الأحادي العنصري، سواء كانت هذه العنصرية نابعة من عقيدة أو قومية أو دين أو سلطة، ومصيره الهلاك أو العذاب، إذ لا أحادية في الكون إلا لله، وسنة الله في خلقه هي التغير والتبدل والاختلاف، وإن لم نؤمن بهذا فنحن مشركون.

ما أريد قوله أن شعار “لا إله إلا الله” هو الأساس في كل ما حولنا، وهو قانون من قوانين الوجود، فلا ثابت إلا الله، ولا أحد صمد سواه، وهذا يترتب عليه أن نسبح مع التيار لا أن نقاومه، بل نحاول التحكم في دفة السفينة، ولا نترك الرياح لترمينا كما تشاء، والله تعالى أمرنا بالعمل والسير في الأرض، والتعقل والتدبر، لا أن نبقى خامدين في المستنقع نتغنى بما وجدنا عليه آباءنا، وبتاريخنا العظيم، ونشكو كثرة المتآمرين علينا.

ولنضع نصب أعيننا دائماً قوله تعالى {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} (النساء 48).