لا تُجرّب المُجرّب يا سيد ماكرون!

آراء

نظرًا لسجلها الحافل بالمواقف المعتدلة والمتسقة، والاعتقاد الراسخ بأن كافة الاختلافات يمكن حلّها بالحوار، وأن استخدام القوة هو فقط ملاذ أخير، دائمًا ما حظيت السياسة الخارجية الفرنسية بالاحترام الفائق في جميع أنحاء العالم العربي – وإيمانويل ماكرون ليس استثناءً لذلك.

مع ذلك، وفي حين يتوجب الثناء على الرئيس الفرنسي لاهتمامه الحقيقي وتحركه الفوري لمساعدة لبنان في أسوأ أزماته، أخشى أن بعض النصائح التي قُدمت له قد تكون دليلاً للتعريف الشائع للجنون: فعل الشيء نفسه مرارًا وتكرارًا وتوقع نتيجة مختلفة… أو كما يقول المثل اللبناني: “من يُجرّب المُجرب، بيكون عقله مخرّب”.

وهنا، أقصد بالطبع تصريحات ماكرون حول جماعة “حزب الله” المدعومة من إيران، خلال زيارته للبنان. فقد قال ماكرون لموقع الأخبار الأميركي “بوليتيكو” إن حزب الله “يمثل جزءًا من الشعب اللبناني وهو حزب منتخب”. (ولا بد من أن نتمنى هنا ألا يحتاج ماكرون، كمواطن فرنسي ضليع بالتاريخ، إلى من يذكّره بأن النازيين كانوا أيضًا “جزءًا من الشعب الألماني” وحزبًا سياسيًا منتخبًا!)

وعن “حزب الله”، قال ماكرون: “اليوم هناك شراكة بينه وبين أطراف آخرين، وإذا كنا لا نريد أن ينحدر لبنان إلى نموذج يسود فيه الإرهاب على حساب الأمور الأخرى، فعلينا تثقيف “حزب الله” والأطراف الآخرين حول مسؤولياتهم”.

حقاً، سيدي الرئيس؟ بشرفك، هل من الممكن أن تشرح لنا كيف تقترح “تثقيف” حزب تعترف أنت بنفسك بأن لديه جناحاً مسلّحاً إرهابياً بالإضافة إلى جناحه السياسي؟ سيكون ذلك بمثابة مطالبة أستاذ مدرسة أعزل بتأديب طالب مشاغب جاء إلى الفصل الدراسي وهو يحمل مسدساً محشواً!

مثل هذه التصريحات والمواقف غير المنطقية، بما في ذلك الدعم الفرنسي للاتفاق النووي الإيراني، تدفع المرء إلى التساؤل عما إذا كان مستشارو ماكرون للشرق الأوسط هم الذين يحتاجون إلى التثقيف بشأن تاريخ المنطقة وحقائقها.

وكما قال النائب اللبناني المستقيل نديم الجميل في “تويتر”: هل تقبل، سيادة الرئيس، أن يحمل حزب فرنسي السلاح ويتدخل عسكريًا في شؤون دولة أوروبية أو يعلن الحرب على دول حليفة لفرنسا؟

لعلمك فخامة الرئيس، لم يحاولنّ أحد أكثر من الراحل رفيق الحريري التحاور مع “حزب الله” وتفهّمه. وتمثّلت “مكافأته” باغتياله على يد رجلٍ قالت المحكمة الخاصة بلبنان أنه شخصية بارزة في “الجناح الإرهابي” لحزب الله – نفس الأشخاص الذين استولوا على بيروت بالقوة في عام 2008 عندما فشل “جناحهم السياسي” في فعل ذلك بطريقة ديموقراطية.

وقال ماكرون:”لا تطلبوا من فرنسا أن تشن حربًا على قوة سياسية لبنانية… سيكون ذلك سخيفًا ومجنونًا”. وهو بالطبع على حق فلا أحد يتوقع من فرنسا – أو أي طرف آخر – أن ترسل جنودها إلى لبنان أو أن تشن حربًا لا يمكن أن تنتصر فيها من دون المزيد من التدمير لبلدٍ على وشك الانهيار بالفعل.

بل إن ما يريده اللبنانيون العاديون، وما كانوا يطالبون به منذ تشرين الأول الماضي، هو إصلاح شامل للنظام السياسي برمته. وهذا يعني “التخلص من القديم”، بمافي ذلك نبيه بري رئيس مجلس النواب منذ عام 1992 والرئيس ميشال عون الذي كان زعيم حربٍ وبعدها تحالف مع “حزب الله” للوصول إلى سدّة الرئاسة وألحق بوحدة المسيحيين اللبنانيين ضرراً شديداً مهدّدًا القلائل الذين لم يهاجروا من البلاد؛ وطبعًا قبل كل شيء، يريد اللبنانيون التخلّص من “حزب الله” نفسه.

لا شك في أن ماكرون بذل جهودًا كبيرة ولديه نيات حسنة، لكن، يا للأسف، فإن الأعمال ليست بالنيات في السياسة، حيث جعلت تصريحاته الكثير من اللبنانيين والمؤمنين بالديبلوماسية الفرنسية يشعرون بالمرارة.

في مؤتمره الصحافي الختامي، وصف ماكرون نفسه بأنه براغماتي. قد يكون هذا الوصف عادلًا نوعًا ما؛ إذا كان استبدال الطبقة السياسية الحالية بأكملها غير واقعي، فإن أقل ما يمكن أن يفعله ماكرون هو أن يطالب علنًا “حزب الله” بالتخلي عن سلاحه وحل جناحه الإرهابي. لكن، أن يتوقع تصديق اللبنانيين لتعهّدٍ يقدمه أي سياسي إلى ماكرون بينما لا يزال “حزب الله” يملك اليد العليا (والمسلحة) فهو أمرٌ أقل ما يمكن وصفه بأنه ساذج.

كان ينبغي على ماكرون أيضًا رفض دخول القصر الرئاسي في بعبدا ما لم يتراجع الرئيس ميشال عون عن قراره غير الديموقراطي بحظر قناةالـ MTV اللبنانية نتيجة تغطيتها الإنتقادية لطريقة تعامله مع أزمة البلاد.

أما بالنسبة إلى الضمانات التي قدمها ماكرون، فيبدو أنه يعتقد أن منع التبرعات المقدمة للبنان في مؤتمر باريس عام 2018 سيكون كافياً. طبعا المشكلة في ذلك أنها ستكون عقابًا للشعب اللبناني وليس لسياسييه الفاسدين.

تحدث ماكرون بالفعل عن عقوبات محتملة للزعماء السياسيين إذا لم يكونوا منضبطين، لكن ذلك كان مقتضبًا وجاء بعد فوات الأوان. لو كان باستطاعتي تقديم النصيحة للرئيس الفرنسي، لكنت جعلت هذا التصريح بالذات نقطة الحديث الرئيسية إذا ما أراد الاعتراف بأنه لا توجد طريقة أخرى للتعامل مع القادة الحاليين.

كان الرئيس الفرنسي سيحصل على استقبال مختلف تمامًا لو أنه برهن أنه يريد فعلًا العمل، ربما من خلال إظهار ما يمكن فعله في ما يتعلق بالعقوبات وتجميدالأصول. كان هذا من شأنه أن يعزز الثقة بين اللبنانيين العاديين، الذين سئموا من رؤية الأغنياء والأقوياء يهربون من العقاب مرارًا وتكرارًا.

سوف يجادل منتقدو النهج الحازم بأنها ليست الطريقة المناسبة لإقناع القادة السياسيين بالجلوس إلى طاولة المفاوضات. أما الحجة المضادة القوية هي أن نهج الرئيس ماكرون، حتى الآن، كان مجهزًا جيدًا بالجزر… ولكن للأسف، تنقصه العصا لمنعصى!

*نقلا عن صحيفة عرب نيوز السعودية