لم تزل السماء رمادية

آراء

برغم خفقات الطير، ورغم تمنيات الأشجار بأن تتعاطف الغيمة مع شغف الكائنات، فما زالت السماء رمادية، ما زالت الغيمة ترتدي شال الخجل، وتخبئ في معطفها سر العناد.

هكذا تبدو في الربيع، مثل زهرة برية، لا تملك غير الرقص في الفراغات، والسير على أكتاف تعب الصحراء، ولا مجال للهطول، لأن الأرصاد أخطأت في الحساب، وصارت سبورة التنجيم مثل تكهنات عرافين غير محترفي التنبؤات.

العشب في شوارع المدينة يصطف مثل تلاميذ تأخروا عن الدرس، فعاقبتهم الإدارة المدرسية بالوقوف على الأيدي لمدة غير معلومة.

رأيت بأم عيني طفلاً يتهجى وجه الغيمة، ويركل مرة باتجاه الأعلى لعله يصطاد قطرة مطر أو أن الغيمة تتراجع عن قرار المنع، فتسدي للهواء كي ينقل رسالتها إلى الأرض، محمولة في ظرف قديم تركه أحد المارة في الطريق الخلفي لشارع عام لعله يلتقطه بعد حين من الزمن.

لم تزل الغيمة تفكر كيف تتخلى عن عادتها القديمة، وتثني على صبر العشب والشجر، وتتعاطف مع الطبيعة، فتسقط نثات كأنها ريق الطير على ريشة صغاره، وكأنها رضاب شغوف عرف فاته قطار العمر، ولم يجد نفسه إلا عند رصيف العمر، ويتلو بعض ذكريات قديمة، وينظر إلى الغيمة، فقد كانت في قديم الزمان إذا لم تهطل، فإنها بشرى خير لطالب لم يحل الواجب، ويظل عند فتحة الباب الخشبي ينتظر زخات المطر التي تملأ الشارع الرملي في بلدته الصغيرة، ولكن الأمل يستمر، والنظرات لا تغمض الجفنين، لأن مدرس الفصل هدد وتوعد كل من تسول له نفسه بعدم حل الواجب، فإن مصيره هو التعليق من القدمين بحيث يصبح الرأس مثل كرة فاسدة، مرخية على حبل الهوامش.

بما أن التاريخ لا يعيد نفسه في كل الأحوال، ولكن الذاكرة هي التي تستدعي التواريخ، وتجلب رحى الأيام، كي تطحن دقيق الأفكار، وتستدعي وتسترجع، وتحيي حفلاً جنائزياً لكبير كان في الصغر، ترهقه مطالب المدرسة، ولا يملك غير يديه الصغيرتين، يمدهما لمدرس أشبه بجلاد، ثم يخفي دموعه عن ذويه، كي لا يقول له الوالد، هذا ما تستحقه، وترفع الأم الرؤوم يدين ضارعتين وتقول ربي يشل يدي من أدمى يديك، ولكن الصغير لا يثق كثيراً بالشجب والإدانة، لأن مثل هذه المشاعر ضيعت الكثير من الحقوق، وبعثرت الكثير من القضايا، وشردت، ورملت، وثكلت، ولم تزل الغيمة رمادية.

المصدر: الاتحاد