هيفاء صفوق
هيفاء صفوق
كاتبة واخصائيه اجتماعية

لنعش التدفق بسلام

آراء

التدفق حال متواصلة من الاستمرارية والاستقبال، تعيشه من دون تعمد أو توجيه أو إجبار، متدفق منصهر متفاعل مع كل شيء من حولك، تكون في حال استقبال دائمة تفيض حركة وحيوية وديمومة، تجعلك كالنهر المتدفق لا تتوقف لسلبية ما، أو إصدار حكم ما، تعيش الرضا والتوكل الدائم والمستمر.

التدفق حركة روحية عميقة، تجعلك في عز قوتك الإلهامية، والإدراكية، والفكرية، والحركية، والإنتاجية.

يعيش الفرد اللحظة الراهنة عندما يكون واعياً ومدركاً، وبعيداً عن حكايات الماضي السلبية، وعن المواقف المؤلمة أو الصادمة، أو التجارب المؤذية، خالياً من القلق والتوتر والخوف من الغد، هنا يستطيع أن يعيش الحاضر وبقوة.

لا نستطيع أن نجعل الأفراد يتخلون عن ماضيهم أو ذكرياتهم، لاسيما المؤلمة منها، لكن هناك سر عميق جداً، بأنهم يستطيعون أن يتعايشوا بطريقة إيجابية خالية من الألم، على رغم بقاء الذكريات المؤلمة أو المواقف القديمة.

يتطلب الاعتراف بها أولاً، أي يتقابل معها وجهاً لوجه، لا يتهرب من الماضي، لا يجعل العقل الباطن مليئاً منها بأسى أو حزن، يكون ذلك من خلال عدم مقاومتها، والاعتراف دائماً – كما يقولون – سيد الموقف، الفرد الذي وصل لتجربة الاعتراف الكامل أمام النفس وما تعرضت له في الماضي، تستطيع أن تبدأ النفس هنا بإزاحة كتلة الألم، تبدأ بالتنظيف والتطهير بسردها أو مواجهتها، أي الاعتراف بهذه المشاعر، مما يجعل المقاومة الداخلية السلبية في الانزواء والانكماش تدريجياً، وهنا يستطيع التغلب على ذلك مراراً وتكراراً، حتى تهدأ النفس، وتبدأ مرة أخرى بارتداء ثوب وأمل جديد، فلا شيء يخيفها من الماضي بعد ذلك.

معظم الأفراد يقعون في شباك الماضي، بسبب المخاوف الوهمية التي صنعها الهرب، الحل ليس بالهرب، بل بالمواجهة الفعلية والمتدرجة، حتى يتم التخلص من ذلك الوجع، أو الخوف، أو الألم.

كما أن هناك أفراداً يصابون بزوبعة من القلق والتوتر من الأيام المقبلة، والمستقبل الذي لم يأت بعد، وخلف ذلك أيضاً الخوف والوهم.

تجدهم – كلا الطرفين – يضيعون في فراغ الخوف والألم، فتضيع عليهم القدرة في مشاركة التدفق والاستمرارية في الحياة.

من كان يرغب في خوض غمار العزيمة والقوة الحقيقية للاستمتاع بجمال وسلام الحياة، عليه فقط أن يتخلى عن قيود زرعتها عوامل عدة، كإرث قديم متمسك بكل المآسي القديمة أو الخوف من كل جديد، عليه أن يعي كيف تسيطر عليه هذه العوامل الوهمية لأنها لا تعيش إلا من خلال الخوف والألم. أما من يعيش في رحاب الحياة فهو المتوكل المشارك في التدفق الذي لا يخضع لمخاوف وهمية، كمحاكمة النفس بجلدها وقمعها، أو محاكمة الآخرين ماذا يفعلون؟ ولماذا يصنعون؟

من يعيش حال التدفق في العطاء، في التفاؤل، في الاستقبال بكل ما يأتي إليه خير أو شر، لا يتذمر، لا يسخط، لكنه في اللحظة الراهنة نفسها يمتلك القبول والتسليم، يتأمل هذه اللحظات دروساً، أو معرفةً، أو يتأملها فقط من دون اعترض، ليفهم المغزى والرسالة من كل حدث يحدث له من دون سخط، هنا بالذات يتعلم الفرد حقيقة كامنة في داخل نفسه، أنه إنسان يمتلك قدرات لم تكشف بعد، تجعل منه في كامل الاستقبال للهبات الربانية العظيمة، واستحضار القدرات الإنسانية الكامنة في داخله، وهذا ما يطلق عليه اليوم عزيمة أو إرادة أو إلهاماً أو إنتاجيةً مبهرة. هناك من مر بتجارب مؤلمة وعواصف مرعدة في حياتهم، أخذوا وقتهم في التشافي عندما واجهوا تلك الآلام والاعتراف بها، ثم قاموا بإزاحة مشاعرها عن الطريق من دون اعتراض أو سخط، ما جعلهم يستقطبون قوة التدفق الحيوية أينما وجدت في عمل أو علاقات أو حياة بالعموم، أصبحوا مثل النهر الجاري لا يتوقف في العطاء والأخذ والاستقبال والإنتاج، حتى وصلوا إلى منطقة السلام النفسي، والسكينة التي لا تجزع بعد اليوم مهما بلغت بهم من ظروف.

المصدر: صحيفة الحياة