ما يصعب ويجب قوله في الصحوة الشيعية

آراء

غالبا ما يُفهم من الحديث عن الصحوة في السعودية المعنى العام الذي يجمع في داخله كل التمفصلات والتشعّبات. حيث تستعرض كبانوراما شاملة لمختلف المكونات الاجتماعية والمناطقية والعقائدية. وهو استدلال قد يبدو صحيحًا من الوجهة المظهرية. بالنظر إلى وقوع مجملالمجتمع في مدار دورة تاريخية سلبية.

إلا أن التفاصيل تكشف عن تباينات لا تؤديها الخطابات العمومية. إذ نادرَا ما يتم التطرق للشق الشيعي من الصحوة. وتحديدًا في منطقة القطيف. وذلك بسبب غياب المثقف المتحدر من السياق الشيعي.

المعني في المقام الأول بهذه المجادلة. لدرجة أن هناك من يعاند توطين هذا المصطلح في الوسط الشيعي فيلجأ إلى استخدام ممحاة كبيرة لطمس الآثار المدمرة لتلك الحقبة.

وأعتقد أنه بات من المستوجب عرض هذا الجانب المسكوت عنه على طاولة التشريح. بمقتضى رؤية برنارد قارده في كتابه (اللغة والنضالات الاجتماعية) القائمة على قاعدة “ما يصْعُب ويجب قوله”. وذلك لتسريع حالة التعافي من ارتداداتها. إلى جانب مجموعة عوامل أخرى تدفع بهذا الاتجاه تتعلق باتساع مساحات التعبير: وعبور الإنسان في السعودية لحظة تحول كبرى. تستلزم فهم ما كثاه وما يمكن أن نصيره تحت مظلة وطن بات يرسل حزمة هائلة من الإشارات للالتحام في بنية وطنية ذات أبعاد قائمة على التعدّد والتنوّع والاختلاف حسب المفهوم الأحدث

لمعنى الثقافة. هذا بالإضافة إلى كون المجتمع القطيفي أحد المجتمعات التي تتسم بالحيوية والثراء القيمي.

وإذا كان الوعي بمعناه التاريخي والاجتماعي والتاريخي وحتى الأخلاقي ركيزة أساسية لفتل ألياف الصحوة وتمريرها كتجربة إنسانية في مختبر الزمن. فإن الاعتراف بخطاياها ركيزة أخرى لا تقل أهمية عن الأولى في مجادلتها. بالإضافة إلى الرغبة في التطهّر من تبعاتها. إذ يتحتم على المجتمع الشيعي ف في القطيف النظر في المرآة ‏ لا .التحديق في ب ظهورهل

الثقافي. بقدر ما هي عنوان للمجتمعات والذوات الشجاعة. بمعنى الإقرار بسطوة الحالة الدينية المتمثلة بوجهها السلبي في الصحوة. الموازية لصحوة الآخر السنّي. التي شكلت طقس المجتمع بشكل عام لأكثر من ثلاثة عقود. ليضاف هذا الجدل المعني بالتداوي منها إلى أدبيات نشأتها ورموزها والخط البياني لصعودها وأفولها. وعلى الرغم من الاختلاف الإجرائي لمنشأ الصحوتين وتباين عوامل تشكُلهما. إلا أن إيقاعهما على أرض الواقع كان على درجة من التناغم,

كما أن آليات إماتتهما للمجتمع كانت متشابهة حد التطابق. حيث استهداف المراة في المقام الأول بالمبالغة في نفيها خارج الفضاء العام. ومحاربة الفنون لطمس أي مزاج مضاد قد يشوش على طهرانية اللحظة؛ والاستيلاء على الجوامع للتحكّم في بوابات تشكيل الرأي العام وهكذا. حيث اتنسعت مساحات التحريم فيما تقلصت هوامش المباح. كما تغؤل تيار الصحوة للقبض على كل مفاصل الحياة. وتفسيق كل من لا يتجاوب مع لافتاتها المتطرفة حد التكفير. وعليه أستزرع الرعب في نفوس الذين لم يتقبلوا تلك الشعارات الصاخبة؛ وبالتالي لجأت فئة إلى قلة قليلة تعاند توحخّش هذه القوة المنقلبة على كل عوامل السلم الاجتماعي بانتظار لحظة الانبعاتث التاريخي مرة أخرى. ولأرن الصحوة في المجتمع القطيفي كانت ذات منزع سياسي استئثاري حيث صدرت بيانات تهديد للمثقفين البرالبين. كما. وزعت قوائم تكفيرية باسماء محسوبات ومحسوبين على الأحزاب اليسارية. وكذلك استخدمت منابر المساجد للتبشير بالصحوة وبث الذعر في نفوس المخالفين وصولا إلى الاعتداءات الجسدية. وهي شواهد محفوظة كأدبيات في منشورات وكتيبات ونشرات وكاسيتات. كأدلة ساطعة على حقبة سوداء. الأمر الذي أدى إلى تفكيك الفرق الموسيقية. وتحويل الأعراس إلى ما يشبه المآتم. والاستحواذ على الجمعيات الخيرية. وشل النشاط الثقافي في الوقت الذي كانت فيه طلائع الشباب تهجر المدارس والجامعات وتغادر إلى إيران أو سورياء إما للدراسة الحوزوية أو للتدريب العسكري. وذلك في طور تدمير السياق الاجتماعي. حيث تم الإطباق عليه بشكل شبه تام.

تلك كانت محطة الانطلاق الأولى التي بدأت إثر انتصار الثورة في إيران سنة 1979م لتتبعها مراحل متباينة في القوة ومتنوعة في المظاهر: ومازالت مفاعيلها قائمة إلى اليوم بعد أن تمترست في خط دفاعها الأخير المتمثل في كثافة الطقوس الدينية الموسمية والتحشيد الاجتماعي. وذلك باستيلاد سلطة مهمتها ضبط حالة الانسجام ما بين المواقف العقدية والممارسات الطقسية. حيث اتخذت في مفصل من المفاصل شكل الشرطة الدينية المنذورة لتفتيش ضمائر الناس. عبر شبكات تجسس اجتماعية. للإجهاز على الطبقة المستنيرة. وتشويه سمعة غير الممتثلين لبرامجهم المتطرفة. لدرجة التهديد بالتصفية الجسدية. وتأليب الأخ على أخيه والابن على والده.

كما لجأت بكل الوسائل إلي صحونة الفضاء العام: بآليات عنفية إقصائية. تمكنت على إثرها من طرد كل من هو غير صحوي من السياق الاجتماعي. وطمس مجمل الأبعاد الحيوية المتنوعة التي كان يتميز بها المجتمع القطيفي. وفي مرحلة أخرى استجلبت كل مظاهر القُرجة الوحشية لكرنفالات السواد والدم والتطبير التي ثُقام في إيران على إيقاع الحرب العراقية الإيرانية. وبعد سقوط بغداد تصاعدت حدة الإحساس الاجتماعي بصوابية الخيار الصحوي. وعليه تم استيراد ثقافة (المضيف) وتوسيع (الكلندر) الشيعي لتتحول الحياة اليومية بمجملها وبدون أي فراغات استراوحية إلى أداءات طقسية تدفع الفرد خارج مستوجبات اللحظة, وتفصله عن الواقع. وذلك في ظل تنامي الشعور بالمظلومية التي كانت بمثابة الرافعة الأنطولوجية للفرد والجماعة على حد سواء.

يساعدها على ذلك التصلّب ضراوة المواجهة مع بعض رموز الصحوة السئية الذين اتخذوا من المنابر الدينية والإعلامية منصات لتضئيل لكل مجتمع نصوصه الأدبية والاجتماعية والدينية والسياسية والأخلاقية, إلا أن ن الصحوة في شقها الشيعي أبت أن يكون للمجتمع القطيفي نصوصه المتنوعة. إذ لا نص يحضر أو يعلو على نص المروية الكبرى (الملحمة الكربلائية) بما هي النص الجامع لمنظومة القيم المراد توطينها في الفرد. وبالتالي حُكم على المجتمع أن يظل في قائمة المجتمعات الباردة. بتعبير كلود ليفي شترواس. فهو مجتمع يخلو من السرديات. عاجز عن سرد جماليات مكانه وهواجس إنسانه: وتخليد رموزه. في الوقت الذي كان فيه المجتمع السئي يقاتل بنصوصه المتعددة المتنوعة محاولات الصحوة إلغاء البديل النصّي للنص الصحوي. وهذا هو ما يفسر -مثلا- الدخول المتأخر والمتواضع لكُتاب الرواية في القطيف داخل المشهد الثقافي. كما يفسر الغياب شبه التام عن معركة الحداثة الأدبية إبان الثمانينيات: وعدم تبنيها فيما بعد إلا من قبل فصائل قليلة العدد. وبالتالي ضآلة التماس مع قصيدة النثر مثلاء فالصحوة الشيعية لم تكن مجرد حالة دينية غايتها الانتصار للمذهب وحسب. بل الإيقاء على كل ما هو تقليدي. وقمع كل ما هو فرداني أو حداثي النزعة في مختلف مظاهر الحياة. وصولا إلى تأسيس أركان الغيتو الشيعي القطيفي المنغلق على نفسه.

لم تعلّق الصحوة الشيعية لافتات التحريم لتمنع الفرد من الكتابة الأدبية في مختلف المجالات. ولكنها اعتمدت ما يسميه ميشيل فوكو (ميكروفيزيائية السلطة) بمعنى ذر مركبات الخطوط الحمراء في كل مفاصل الحياة الاجتماعية لتمنع تدفق الجمال. فكل كنابة شعرية لا تكون كربلائية النزعة لا يُعتد بها وكل شاعر لا يكرس شعره لمدح آل البيت لا مكان له في منصة الشرف الاجتماعية. وهذا هو ما دفع معظم الشعراء. الذين ينتمون إلى مجتمع يوصف بالمجتمع الشاعر: إلى توجيه بوصلة خطابهم الشعري نحو الولائيات والرثائيات. وإلى حد ما الرومانسيات: لولا

استثناءات قليلة جدًا.

تمامًا كما وجه المسرحيون طاقتهم نحو ما يُعرف بالمسرح الحسيني. باعتباره وظيفة ولائية. وكذلك تفشت ظاهرة (الرواديد) الذين تكاثروا كالفطر. ولم ينج الفن التشكيلي من ذات المصير حيث استحدث ما يُصطلح عليه بالمرسم الحسيني. كذلك استجلب بعض المشتغلين بالتاريخ متوالية من الرموز التاريخية لطأفنتها. حتى الكتابات الفكرية لم يكن يُنظر إليها كإسهامات ذات قيمة ما لم تعدد ماثر الطائفة. وذلك . بمقتضى آليات الإبدال الثقافي التي نجحت بالفعل في إبقاء المجتمع القطيفي خارج التاريخ لبرهة من الزمن؛. على هامش الحياة الثقافية. وبمعزل عن اشتراطات المجتمع المدني.

لم تتمثل الصحوة الشيعية طوال تاريخها في فصيل واحد. بقد ما كانت مزيجًا من التيارات الدينية المتخالفة مع بعضها على حجم تمثيلها الاجتماعي. المتواطئة على إخماد أي صوت ثقافي ناقد. وقد تناوبت تلك القوى على طمس الهوية الحيوية متعددة الوجوه للمجتمع وإبراز هوية ورمزية العمائم. وذلك ضمن دورة تاريخية كانت الغلبة فيها لما بات يعرف بالإسلام السياسي الذي أراد التأكيد على أن المجتمع القطيفي عصي على الحداثة. وهنا لابد من قراءة فاحصة للتيار الذي نكّس أعلام مظاهر التعبئة الدينية المتطرفة: وأعاد إنتاج كيانه كقوة ناعمة. معنية بالدفاع عن الحقوق المدنية: والإهتمام بالمناشط الثقافية, وتأسيس أكبر قدر ممكن من المواقع الإعلامية الإلكترونية التي تعمل كأذرع اجتماعية للتيار وتوطين رموزه الدينية. وذلك للحفاظ على حصته من وقود الصحوة. إذ لم يترك هذا الفصيل الذي يبدو في ظاهره متصالحًا مع إرادات المجتمع ومستوجبات لحظة التسالم والتعايش, الساحة فارغة للفصيل المهووس بعسكرة الصحوة. ولذلك كانت سطوته أشد وأدواته وأساليبه أكثر مكرًا.

هكذا بدت الصحوة في القطيف كمحاولة لنشر الإسلام في مجتمع متدين بطبعه. أو دمغه بالطبعة الصحوية بمعنى أدق. وقد تمثلت أكبر انتصاراتها في تعطيل الفكر الناقد وزرع الخوف في الفرد القطيفي وبالتالي إماتة مفهوم الرقابة الواعية. لولا أن التاريخ: كشف في مفصله المتأخر وبفعل التحولات الداخلية ومهبات العولمة عن مجموعة حقائق صادمة, تأني في مقدمتها الصورة التي يبدو عليها المجتمع القطيفي التي تتأطر في منظومة من الملالي المعمّمين. أو طلاب العلم كما يتعارف عليهم: يحتلون المشهد كبطالة مقئعة؛ وهم نتاج مرحلة تاريخية

والأدبية. أو هذا هو ما يلتقطه الآخر من خارج الصورة. حيث يشي المشهد بمجتمع نكلّت به الصحوة وشوهت ملامحه. ولكن الواقع غير ذلك تمامًا فوراء هذه الصورة البائسة التي تحاول

مفاعيل الصحوة استظهارها كعنوان هوياتي يزدحم المجتمع بنخبة من النشطاء الاجتماعيين والأطباء والمثقفين والأدباء والأكاديميين والمصرفيين والإداريين والمهندسين والمعلمين من الجنسين. ولعل هذه الكتائب من المتنورين التنويريين الذين استفادوا من خطط ومعطيات التنمية بمختلف توجهاتها تجيب على سؤال الآخر السني خلال السنوات الماضية عند وقوع أي أزمة: أين عقلاء الشيعة؟ لقد كانوا وما زالوا يرابطون بعيدًا عن مستنقع الطائفية. في المعامل والبنوك والجامعات والمستشفيات.

المصدر: صحيفة صبرة الإلكترونية