د. جمال سند السويدي
د. جمال سند السويدي
كاتب وأكاديمي ومفكر إماراتي

مبادرة عام القراءة.. الإمارات تستنهض العالم العربي

آراء

من أهم المبادرات التي يمكن أن تصنع التاريخ في أي مجتمع من المجتمعات تلك التي تتعلق بالعلم والمعرفة، فما من أمة أو حضارة امتلكت ناصية العلم وأخذت بأسبابه وأساليبه، إلا وشقت طريقها بقوة نحو التقدم والازدهار والتفوق الحضاري، فبالعلم تبنى الأوطان وتزدهر الحضارات وترتقي الشعوب. والمفتاح الأساسي للعلم والمعرفة هو القراءة، التي جعل الله الأمر بها أول كلمة يتنزل بها الوحي على النبي، محمد صلى الله عليه وسلم: «أقرأ باسم ربك الذي خلق».

وفي هذا الإطار تأتي أهمية مبادرة «عام القراءة 2016»، التي أطلقها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، في ديسمبر 2015؛ بهدف تشجيع ثقافة القراءة وترسيخها كسلوك مجتمعي عام؛ لخلق جيل جديد مثقف يستطيع قيادة مسيرة التنمية الشاملة والارتقاء بإمارات المستقبل إلى المراكز الأولى التي تنشدها في مختلف مجالات الحياة، وهو ما عبّر عنه سموه، حفظه الله، بقوله: «سيبقى مفتاح الازدهار هو العلم.. وسيبقى مفتاح العلم هو القراءة، وستبقى أول رسالة من السماء للأرض هي اقرأ».

والحديث عن أهمية هذه المبادرة السامية ينبع من الحديث عن أهمية القراءة ذاتها للفرد والمجتمع، وهو أمر لا يحتاج إلى برهان، فمن خلال القراءة يتزود الفرد بالمعارف الحديثة، ويطلع على أحدث الأفكار والتجارب والابتكارات التي ترسم ملامح المستقبل للدول والمجتمعات، ويكتسب المهارات الأساسية التي تمكّنه من مواكبة النهضة الحضارية التي يعيشها العالم، وتكوين شخصيته المثقفة القادرة على التفكير النقدي المستقل، وإيجاد الحلول المبدعة والمبتكرة للمشكلات القائمة والمستقبلية، وكلما كانت ثقافة القراءة وحب الاطلاع أكثر انتشاراً بين أفراد المجتمع، كان هذا المجتمع أكثر تطوراً ومواكبة للتطورات العالمية المتسارعة في المجالات كافة، وأكثر وعياً بما يدور حوله وأكثر حصانة ضد أي محاولات لاختراقه أو تهديده.

وتشير التجارب التاريخية إلى أن القراءة والاطلاع على الإنتاج الفكري للحضارات والشعوب المختلفة كان دائماً هو مفتاح التغيير الإيجابي والتفوق الحضاري للأمم والشعوب، فالحضارة العربية والإسلامية نمت وازدهرت بفضل حركة الترجمة والنشر التي مكّنت المسلمين الأوائل من الاطلاع على أفكار الثقافات الأخرى، والاستفادة من نتاجها الفكري والبناء عليه. وكذلك الحال بالنسبة إلى الحضارة الأوروبية-الغربية الحديثة، التي استفادت بدورها من الإنتاج الفكري للحضارة الإسلامية وحضارات الأمم الأخرى، وبنت عليه لتخرج من عصور الجهل والظلام إلى النهضة والحداثة، في الوقت الذي دخلت فيه الحضارة العربية والإسلامية مرحلة الجمود الفكري والتراجع الحضاري كنتيجة لتراجع الاهتمام بالقراءة والعلم والنزوع بدلاً منهما نحو الخرافة والجهل والتقليد.

وللقراءة دور مهم كذلك في تنمية وعي الفرد بالآخرين وفهم ثقافاتهم وقيمهم كأساس لبناء جسور من الحوار والتواصل بين الأمم والشعوب وتقليل نزعات التشدد والتعصب الأعمى، التي غالباً ما تتكون نتيجة الجهل بالآخرين وبأفكارهم وثقافاتهم، كما أن القراءة بما تعنيه من تنمية التفكير النقدي السليم تحصن الأفراد من الانجرار خلف الأوهام والأفكار المتطرفة التي تحاول أن تروج لها بعض الجماعات الدينية السياسية المتطرفة لنشر الكراهية والعنف، فالإنسان القارئ المثقف يستطيع بسهولة دحض أفكار هذه الجماعات المشوهة والمنحرفة. وقد عبر صاحب السمو رئيس الدولة -حفظه الله- عن هذا المعنى قائلاً: «القراءة تفتح العقول.. وتعزز التسامح والانفتاح والتواصل.. وتبني شعباً متحضراً بعيداً عن التشدد والانغلاق».

ولا يمكن فصل هذه المبادرة، التي رسمت لنفسها هدفاً استراتيجياً طويل المدى يتمثل في ترسيخ مكانة دولة الإمارات العربية المتحدة كعاصمة للمحتوى والثقافة والمعرفة، وما ارتبط بها من مبادرات وسياسات أخرى لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، لاسيما إطلاق «الاستراتيجية الوطنية للقراءة في دولة الإمارات العربية المتحدة (2016-2026)» في أبريل 2016، بما تضمنته من أفكار ومشروعات رائدة كإنشاء الصندوق الوطني لدعم القراءة بقيمة 100 مليون درهم، وتخصيص شهر للقراءة كل عام، وإعداد قانون وطني للقراءة، وإحداث تغييرات في الأنظمة التعليمية والمناهج الدراسية لبناء جيل إماراتي قارئ ومثقف -لا يمكن فصلها عن الهدف الاستراتيجي الأوسع نطاقاً الذي وضعته القيادة الرشيدة نصب عينيها منذ البداية، وهو بناء الإنسان الإماراتي وتنمية قدراته ومواهبه، ليكون قادراً على تحقيق طموحات وطنه في التقدم والازدهار في الميادين كافة. وهو أمر تجسد قولاً وفعلاً في نهج القائد المؤسس، المغفور له -بإذن الله تعالى- الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، الذي جعل الاهتمام بنشر العلم والتعليم والمعرفة في مقدمة الأهداف الوطنية، انطلاقاً من مقولته التاريخية: «إن رصيد أي أمة متقدمة هم أبناؤها المتعلمون»، وهو نهج سارت عليه القيادة الرشيدة بقيادة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة -حفظه الله- وأثمر تصدر الإمارات مؤشرات التنمية البشرية على المستويين الإقليمي والدولي.

كما ترتبط هذه المبادرة ارتباطاً وثيقاً بجهود دولة الإمارات العربية المتحدة لترسيخ الاقتصاد المعرفي كأساس للدخول إلى المستقبل والحفاظ على تقدم الدولة ورفاهية مواطنيها، فمن دون القراءة لا يمكن أن ينشأ المواطن المثقف المبتكر الذي يستطيع ترسيخ أسس الاقتصاد المعرفي وقيادة مسيرة التنمية المستدامة، وهو ما عبّر عنه صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة -حفظه الله- بقوله: «إن تأسيس اقتصاد قائم على المعرفة، وتغيير مسار التنمية ليكون قائماً على العلوم والابتكار، وتحقيق استدامة للازدهار في دولتنا، لا يكون بإدمان استيراد الخبرات من الخارج، بل بغرسها في الداخل ورعايتها حتى تكبر، وتنشئة جيل متعلم قارئ واع لتطورات العالم الذي نعيش فيه، وملمّ بأفكاره وأحدث نظرياته في القطاعات كافة».

ولعل الأمر الأكثر أهمية، فيما يتعلق بهذه المبادرة، هو أنها تتجاوز بأهدافها وتأثيراتها الإطار الوطني الإماراتي إلى الإطار الإقليمي العربي والإسلامي، حيث تقدم الإمارات من خلال هذه المبادرة، كما هي عادتها، النموذج المضيء لأمة عانت ولا تزال تعاني، ليس فقط قلة الاهتمام بالقراءة واكتساب المعارف الحديثة، وإنما حتى الأمية الأبجدية، على نحو جعلها تتذيل الأمم في مستويات التنمية والتحضر، وتأتي على رأسها في انتشار الفقر والتطرف والإرهاب. وهذا الواقع الثقافي والمعرفي المتردي للأمة العربية والإسلامية، عبّر عنه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة -حفظه الله- خلال حفل تكريم الفائزين بجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها الأولى في أبريل 2007، بقوله: «إن واقع الثقافة في العالم العربي لا يسر عدواً ولا صديقاً.. فتعدادنا نحو 300 مليون نسمة، لكن أكثر الكتب رواجاً لا تتجاوز أكثر من خمسة آلاف نسخة من المشرق امتداداً إلى المغرب»، مشيراً سموه إلى تقرير «اليونيسكو» لعام 2005، الذي أشار إلى أن معدل القراءة لدى المواطن العربي لا يتجاوز دقيقتين فقط في العام بأكمله بينما في أوروبا ست ساعات، فيما أوضح التقرير العربي الخامس للتنمية الثقافية، الصادر عن مؤسسة الفكر العربي في عام 2012، أن المواطن العربي يقرأ بمعدل 6 دقائق سنوياً، بينما يقرأ المواطن الأوروبي بمعدل 200 ساعة سنوياً، وتشير دراسات أخرى حول عادات المطالعة والقراءة لدى مختلف شعوب العالم إلى أن معدل ما يقرؤه الفرد في العالم العربي سنوياً، هو ربع صفحة فقط، مقابل 11 كتاباً للمواطن الأميركي و8 كتب للبريطاني. ويبدو الوضع صادماً بصورة أكبر، إذا علمنا أن نسبة الأمية الأبجدية؛ أي الذين لا يجيدون القراءة والكتابة، في العالم العربي هي من أعلى النسب عالمياً، وقد بلغت وفقاً لتقرير «اليونسكو» الصادر عام 2014، نحو 19% من إجمالي السكان، بعدد يصل إلى نحو 96 مليون أمّي.

ولهذا يبدو طبيعياً أن تغيب الجامعات العربية عن قائمة أفضل 100 جامعة في العالم، وتحضر إسرائيل، وفق كل التصنيفات العالمية التي تصدر في هذا الشأن، سواء ذلك الذي تعده مؤسسة «التايمز» أو الذي تصدره جامعة «جيا تونج» الصينية في شنغهاي، ويبدو طبيعياً أن تتضاءل مساهمة العالم العربي إلى حد التلاشي في مسيرة الاختراعات التكنولوجية الحديثة وتحوله إلى مستهلك لما ينتجه العلم في بلاد أخرى. ومن الطبيعي كذلك أن يغيب العرب عن الحضور في جوائز «نوبل» السنوية في مجال العلوم. وكيف لا يكون ذلك ونسبة إنفاق إسرائيل على البحث العلمي من ناتجها المحلي الإجمالي أكبر من ضعف ما ينفقه العرب جميعهم على البحث العلمي في بلدانهم!

استناداً إلى هذا الواقع الأليم، تمثل مبادرة «عام القراءة 2016»، وما تلاها من مبادرات وإجراءات، لاسيما الحملة التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في يونيو 2016 بعنوان «أمة تقرأ»، والتي نجحت في توفير ما يكفي لطباعة ونشر وتوزيع 8.2 مليون كتاب على الطلاب واللاجئين والمحتاجين في العالم الإسلامي، وكذلك مبادرة «تحدي القراءة العربي»، التي أطلقها سموه، لتشجيع القراءة لدى الطلاب في العالم العربي عبر التزام أكثر من مليون طالب بالمشاركة بقراءة خمسين مليون كتاب خلال عام دراسي، وغير ذلك من مبادرات رائدة، محاولة إماراتية جادة لسد ثغرة كبيرة وخطيرة في جدار المعرفة والثقافة العربية الآيل إلى الانهيار، ولاستنهاض الدول العربية عبر نشر ثقافة القراءة والاطلاع كخطوة ضرورية للخروج من حالة التراجع الحضاري التي تعيشها.

المصدر: الاتحاد