السعد المنهالي
السعد المنهالي
كاتبة إماراتية

مفردات متناقضة

آراء

لدى البعض دون غيرهم قدرة على استخلاص حالات جمالية لا متناهية من التناقضات المحيطة بهم، فبين العالي والمنخفض والغامق والفاتح والحلو والمالح وحتى الحب والبغض تتفتح قريحتهم وتتألق حواسهم، ومن بين هذه التناقضات تولد إبداعات غذت الحضارة الإنسانية، فيما أنشأ هذه الحضارات من نجح في صهر كل التناقضات في نسيج بكل ألوان الحياة وأعاد إنتاجها في قالب جديد. تستوقفني كثيراً تلك الجمل التي تحمل مفردات متناقضة، وأجد نفسي أستخدمها بكثرة فيما أكتب، لأنها -كما أراها- تعبر بواقعية عن حقيقة الأشياء المتشابكة حولنا، وغياب المعنى الواحد الدقيق لأي حالة، فعادة ما يجتمع عدد من المعاني المتناقضة وكذلك المشاعر المتناقضة في شيء واحد وفي الحالة الواحدة وفي اللحظة الواحدة، كما أنها تبدو لافتة جداً ومحرضة على التأمل والتفكير والبحث، وبعضها يبدو شهياً، مغرياً للتورط فيه، كعبارة أتأملها منذ زمن «روابط متحررة ». كيف يمكن أن تكون روابط، وأن تكون متحررة في الوقت نفسه؟ فالروابط -كما نعتقد أننا نعرف- تسير ضمن نظام يخضع للحقوق والواجبات وفق حركة معروفة سلفاً، أما أن توصف بالتحرر، فهذا يلغي صفة الربط التي هي حال في الوقت ذاته.

على مستوى العلاقات الإنسانية يبدو هذا التعبير مخالفاً تماماً للطبيعة التي اعتاد الناس عليها، كما أنها قد تكون محل استهجانهم كونهم قد يرونها دعوة تدفع إلى شكل من أشكال الفوضى الإنسانية غير السوية! ولكن يبقى لها ألقها لكون الروابط التي لا تخضع لأي قيود لا يترتب عليها أي التزامات، وهي الالتزامات التي قد تخذل أحد طرفي العلاقة وتصيبه بالإحباط والكفر بالعلاقة برمتها، بل وحتى قد تصل لدى البعض إلى نقيضها. في الواقع المعاش، هناك أنواع من العلاقات تدخل بين الجلد والعظم، وفي الحدود الدقيقة بين الحب وغيره من العواطف الأخرى، في هذا النوع يبدو طرفا العلاقة غير قادرين وغير راغبين بعبور الحدود، وكذلك غير نادمين عليها، هذا النوع من العلاقات لا يفهمه الكثيرون من الناس ويجدونه مربكاً، ليس ذلك وحسب بل قد يحاربونه، كونه لا ينسجم مع المنظومة المتعارف عليها والخاضعة لحدود المسؤوليات، وفي أحوال كثيرة لأنهم رغم إعجابهم بها لا يملكون جرأة الأقدام عليها. يقول بورخيس: «الكتاب الذي لا يقدم نقيضه، يعد ناقصاً». الحقيقة أن الحياة كلها بدون هذه التناقضات والتباينات لا تعد حياة، ومن لم ير إلا ما توافق معه واتفق، فليعلم أنه فوت الحياة من حياته، فالملاءمة الكاملة والتوافق التام والانسجام غير المشوش تبدو مصطنعةً مسخت عن طبيعة الأمور، لأن طبيعة الأشياء تحمل الضدين، وبدونهما لا تكتمل الصورة.

المصدر: الاتحاد