ملابس الصحوة للمدرسين

آراء

في (سوسيولوجيا المثقفين) يصف جيرار ليكلرك المثقف بأنه (هو الذي يتعامل مع الأفكار إنتاجا واستهلاكا وإعادة إنتاج وتوزيع سواء كانت أفكارا أدبية أو علمية فكرية أو أيديولوجية)، وبالمقابل نجد ماكس فيبر في كتابه (رجل العلم ورجل السياسة) يصف الأكاديميين بصفات مشغولة بمواضعات بيروقراطية وتقاليد تعري الأكاديمية فتجعلها سلطة أكثر منها معرفة، إذ يقول وأنقل هنا بتصرف لغرض الاختصار (إن أستاذ الجامعة الذي يظن في نفسه أنه الزعيم أو الملهم، لا يحق له ممارسة هذا الدور في المحاضرة، فأقصى حدوده الموضوعية في طرح الأفكار والمعلومات، وما عدا ذلك فعليه أن يجربه خارج قاعة الدرس، في الصحافة أو في الحزب أو أي تجمع بشري غير قاعة الدرس)، حيث يشير من طرف خفي إلى أن لا امتياز لأي زعامة مفترضة بين أستاذ وتلميذ لا يستطيع معارضته أو التذمر من آرائه الخاصة، ولهذا نجد أخلاقيات الطلاب البراجماتيين تراعي نفسية الدكتور ومزاجه أكثر من مراعاتها لمادته العلمية.

لماذا كل هذه المقدمة؟ ببساطة لأن الأكاديمية عندنا في دول الخليج خصوصا عليها عبء ملء الفراغ الحاصل في إنتاج المعرفة الإنسانية المحسوبة كإنتاج أكاديمي رزين يحسب لأكاديميي (المشرق العربي)، والذي كان يملؤه أكاديميو العراق وبلاد الشام عموما ومصر، ومن خلال متابعتي المتواضعة لا أجد ما يكافئ الهمّ المعرفي الأكاديمي ومعاييره الصارمة التي يجدها المتابع والمهتم في دراسات وإنتاج أكاديميي (المغرب العربي).

كثير من الأكاديميين في دول الخليج مشغولون بمزاحمة الإداريين والإعلاميين وأنصاف المثقفين في مكتسبات الهوامش الثقافية والإعلامية والإدارية، بينما أكاديميو المغرب العربي مشغولون بصناعة حيزهم الخاص وفضائهم الأكاديمي الرزين في جامعاتهم وعبر نتاجات فكرية رزينة تضيف للمكتبة العربية بشكل حقيقي دراسات لا غنى عنها لكل مثقف مشغول بأفكار النهضة والفكر والتنوير والعقلانية.

قد نجد العذر لبعض أكاديميي دول الخليج بأن العمل الأكاديمي لا قيمة له بدون (حرية التعبير)، فما زلت أذكر دراستي للماجستير في اليمن والتي كانت مجرد عذر أجد به الوقت الكافي للبحث عن عمي المفقود قبل ستين عاما في دهاليز المفارقات السياسية العربية، وقد وجدته ولم أجد نفسي أكاديميا ولو للحظة والنوايا مطايا، وما زلت أذكر الأكاديمي العراقي المشرف على أوراق الدراسة في اليمن (مواليد 1944 وخريج السوربون، ولم أذكر اسمه تقديرا لمقامه في عدم ذكر ما قد يجرح كبرياءه الأكاديمي) وهو يأخذني وصديقي بعيدا عن طلاب الماجستير والدكتوراه ويقول (هؤلاء طلبة دراسات عليا يهمهم الشهادة ليكونوا متعلمين مؤهلين لوظيفة مدرس في الجامعة، أما أنتم فمثقفون ومناقشتكم متعة تختلف عن مناقشة هؤلاء الطلبة (العاديين) الجاهلين بمعنى (الحرية الأكاديمية)، ثم أشار إلى بعض حياته العلمية من بغداد إلى فرنسا والقاهرة واليمن… إلخ، وكيف أن مهنة التدريس لا تعني أبدا القدرة على اكتساب أي مهارة حقيقية في الحياة، باستثناء من يملك الموهبة، وهو يرى حالة المثقف موهبة لا علاقة لها بالعمل الأكاديمي، بينما -في نظري- حالة المثقف ليست موهبة، بل (ورطة وجودية).

طبعا انتهت دراستي إلى شعور بالخيبة أمام إكراهات الأكاديمية، وانتهى بحثي عن عمي لأجده قد واصل دراسته في الكلية الحربية بالقاهرة قبل خمسين عاما، ومنها إلى دراساته العليا بأكاديمية العلوم العسكرية بموسكو ليعيش حياته ما بين روسيا واليمن ويستقر في عدن وقد تجاوز السبعين من العمر، عنيد متكلس الأفكار يتعايش مع السكر والقلب ويزور ابنته المسيحية الروسية في موسكو كل عام أو عامين إذا تيسرت الظروف.

الأكاديمية سلطة وقد انتشر بين بعض الأكاديميين إساءة استخدامها، ولهذا نحتاج وثيقة ترشيد للعمل الأكاديمي، فطموح القيادة السياسية أن نكون قبلة الشرق الأوسط في التنمية والنهضة ومعنا دول الخليج واليمن، بإذن الله، وهل من اللائق أن تعيش الأكاديمية عندنا صراعات الأكاديمية الأوروبية في القرون الوسطى، وللتاريخ نورد بعض الأسماء التي تحترم الأكاديمية وتعطيها رزانتها المطلوبة، وفق متابعة متواضعة غير شاملة، وأبدأ بالدكتور سعيد السريحي الذي يعدّ شاهدا وضحية زمن قروسطي في الأكاديمية، مرورا بعبدالله الغذامي الذي عرجت على نقد (نقده الثقافي) في كتاب حجامة العقل وكتاب المرأة أضحية المعبد (كجهد المقل الذي ربما كان سيقف معي فيه أحمد رحال الشيباني، رحمه الله)، ولكن لا يسع الموضوعيون إلا احترام أكاديمية الغذامي، فهو من الأسماء التي يصح فيها المثل (لا تغطى الشمس بغربال)، ولن ينتهي هذا المقال دون ذكر الرزين الرفيع سعد البازعي ومثله سعد الصويان وفالح شبيب العجمي وحمزة المزيني وغيرهم ممن لم تحضرني أسماؤهم مع حفظ الألقاب والتراتبية التي يستحقونها بإنتاجهم الفكري والثقافي الذي نحاول بهم وبأمثالهم من أسماء نادرة وقليلة أن نستعيد مجد المشرق العربي لنشارك مفكري المغرب العربي تميزهم الأكاديمي، أما المثقفون فمن واجبهم احترام كل اسم صنع بجهده الفكري -خارج سياق متطلبات الترقية الأكاديمية- ما ينفع المثقفين في كل مجال، خصوصا الترجمة عن اللغات الحية، وما عدا ذلك فدكتوراه قد تكون من أكسفورد أو هارفرد لكنها لشخص (مثابر)، وفي ما كتبه الأكاديمي والمفكر العريق هشام شرابي (ولد 1927/ توفي 2005) عن الطلبة العرب -ومنهم سعوديون إن لم تخني الذاكرةـ في مذكراته بعنوان (الجمر والرماد) ما يبين الواقع، حيث امتدح الفتيات العربيات في جدهن الأكاديمي الذي يفوق شقيقها العربي، بل وأشار من طرف خفي إلى أن حتى بعض أفضل الجامعات الغربية قد تعامل الطالب العربي بمعايير أقل صرامة من معايير الطالب من بني جلدتها، معايير قد تشبه معايير النجاح لطلبة الليلي مقارنة بالصرامة مع طلبة النهار.

كل الاحترام والتقدير والإجلال لكل أكاديمي أضاف للمكتبة في أي مكان أو لمراكز الأبحاث في أي مكان قيمة علمية، سواء بجهده الفكري أو عبر اشتغاله على الترجمة ليقرأها المهتمون فقط، لا الطلاب وفق منطق (اشتروا كتبي تنجحوا)، وما عدا ذلك فمزايدات قبيلة المثقفين على بعضها، تلك المزايدة التي تبدأ بعبارة (لم يتفق أحد على تعريف المثقف)، وتعني بهذا أنه لقب مطاط يضع مدرس المتوسطة ومدرس الثانوية ومدرس الجامعة ممن لم يسمعوا بغرامشي أو فولتير مع أسماء عاشت الهمّ الثقافي على السفود في الزمن الصعب، كل هذا لسبب بسيط أن هؤلاء المدرسين في النوادي الأدبية قبل بضع سنوات ربما كانوا يفيدون قيادات الصحوة في التصويت لاكتساح انتخابات الأندية الثقافية، وبعد ذلك لا نشاط ثقافيا ولا إنتاج فكريا يستحق، بل نسجت لهم الصحوة المحتالة ثوبا من الوهم يشبه حكاية (ملابس الإمبراطور الجديدة للكاتب الدنماركي هانس أندرسن)، وعاشوا به يتوهمون الستر بسبب نفوذ الصحوة آنذاك، ولم يدركوا الحقيقة حتى الآن، فهل أتت لحظة الطفل الذي في الحكاية لنقول: هؤلاء عراة لا يرتدون أي ملابس على الإطلاق.

المصدر: الوطن السعودية